+ -

جاء في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما يقول عليه الصّلاة والسّلام: ”الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من النّاس، فمَن اتّقى المشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألَا وإنّ لكلّ ملك حمى، ألَا إنّ حِمَى الله في أرضه محارمه، ألَا وإنّ في الجسد مُضغة إذا صَلُحت صلُح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألَا وهي القلب”.قلب العبد هو موضع نظر المعبود سبحانه، وبالقلب يعلم العبد أمر ربّه ونهيه، وبه يحبّ العبد ربّه ويخافه ويرجوه، وبالقلب يفلح العبد وينجو يوم القيامة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، وبالقلب يقطع المرء سفره للآخرة، فإنّ السَّير إلى الله تعالى سير قلوب لا سير أبدان، كما يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله، ولذلك نجد في كتاب ربّنا آيات كثيرة تتحدّث عن أعمال القلوب، وأعظم هذه الأعمال الإيمان الّذي هو الدّين كلّه.ويبيّن ربّنا أهمية القلب كما في قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، فالأعراب أسلموا، أي: قد حصل منهم الانقياد الظاهر، ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، الإيمان الّذي هو إقرار باللّسان وتصديق بالجنان، فالإيمان في الحقيقة هو إيمان القلب، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}، وذلك في مخاطبة المؤمنين، فهكذا يكون تزيينه في القلب ودخوله فيه، أمّا المؤمنون السابقون فقد زيّنه في قلوبهم، وأمّا الأعراب فهو لم يدخل قلوبهم بعد، مع أن الجميع مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.وأعمال الجوارح لا تكفي من دون أعمال القلب، ففي عهد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم يروى أنّ رجلًا أبلى بلاء شديدًا في إحدى الغزوات، ومع ذلك فإنّ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم قال في شأنه: ”إنّه من أهل النّار”، مع أنّه ربّما كان في تلك الغزوة من هو من أهل الإيمان والتّقوى ومن أهل الجنّة في الجيش ولم يبل ذلك البلاء، وكذلك في الإنفاق والصّدقة والإحسان وسائر أعمال الخير الّتي نعبد الله ونتقرّب بها إليه.إذن فالإيمان هو إيمان القلب، والتّقوى أيضًا هي تقوى القلب: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وفي الصّحيح يقول سيّد الخلق: ”التّقوى ها هنا، التّقوى ها هنا، ويشير بيده إلى صدره”، فمحل التّقوى هو القلب، والتّقوى تشمل كلّ أعمال الخير والبرّ والصّلاح.والقلوب أقسام ثلاثة: قلب سليم: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، أي: خالص، متجرّد لله، لا تشوبه شائبة من شرك أو نفاق أو رياء، ويقول سبحانه في موضع آخر عن سلامة القلب في حقّ إبراهيم الخليل: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، فقلبه عليه السّلام خلُص وتجرّد وتطهّر لله وحده لا شريك له.وقلب مريض، فحين تحدّث البيان الإلهي عن المنافقين قال: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا}، والنّصوص الّتي تتحدّث عن القلوب المريضة تشير غالبًا إلى طائفة كبيرة محسوبة على هذا الدّين وهم المنافقون، الّذين ينفقون، ولكن ينفقون وهم كارهون، ويصلّون، ولكن يصلّون وهم كارهون، ويخرجون للجهاد، ولكن: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}، (خبالًا) أي: اضطرابًا في الرّأي، وفسادًا في العمل.وقلب ميت: وهو الّذي لا حياة فيه، وصاحبه لا يعرف ربّه، بل يعرف شهواته، حتّى لو كان فيها سخط ربّه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظّه، رضي ربّه أم سخط، فهو يحبّ غير الله، ويخاف غير الله، ويرجو غير الله، ويرضى لغير رضى الله، ويسخط لغير سخط الله، ويعظّم غير الله، ويتذلّل لغير الله، إن أحبّ أحبّ لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فالهوى إِمامُه، والشّهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه، فهو في تحصيل أغراضه الدّنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحبّ العاجلة مخمور، لا يستجيب لناصح، فهو أجير الدّنيا الفانية، وشقيّ من أشقيائها. نسأل الله العافية.إمام مسجد عمر بن الخطاب – بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات