الوعي التّاريخيّ مقومٌ أساسيٌّ للإصلاح

+ -

”تاريخ الأمم والدّول والشّعوب لا يقاس بالأيّام والأعوام، بل بالعقود من الزّمان والقرون من السنوات”، مقولةٌ كثيرًا ما سمعناها وردّدناه، وكثيرًا ما تغيب عن بالناوتغم عن وعينا، فننظر إلى واقعنا ونحلّل أحداثه ونحكم على مساراتها وكأنّنا نقوّم مسار شخص من الأشخاص لا أمّة ومجتمعا.

 إذا كان الشّخص ربّما تاب فتحوّل حاله من عاصٍ لطائع بين عشية وضحاها، وربّما قرّر تغيير نفسه وإصلاحها في جانب من الجوانب فظهرت النتائج سريعًا، وربّما قرّر تنحيف جسمه والتخلّص من الترهّلات الّتي علته فلم يحتج إلّا لأيام من الحمية والرّياضة، وربّما.. وربّما.. إذا كان الحال مع الأشخاص هكذا، فإنّ أمر الأمم والدّول والشّعوب ليس كذلك، بل هي تحتاج للنّهوض بعد الخمود لسنوات طوال أو لعقود أو قرون من العمل الجاد والتّفكير العميق والتّضحية النّبيلة والتّعاون الصّادق.إنّ من أخطر ما يصدّ النّاس عن سلوك سبيل الإصلاح، ويصيب كثيرين بالتّشاؤم واليأس من تحسّن الأوضاع وانصلاحها، بل يدفعهم للتّسليم بالواقع والتّطبيع معه كما هو بفساده وانحرافه، هو اعتقاد دوامه وأبديته وأزليته! فلقد رسب في عقول كثير من النّاس أنّ التّخلّف الّذي تعاني منه الدول الإسلامية والعربية -ومنها الجزائر بطبيعة الحال- وأنّ الازدهار المادي الّذي تعرفه الدول الغربية قدرٌ محتوم لا يتغيّر ولا يتبدّل، وكأنّ الحال كان دائمًا هكذا! وهؤلاء يعتقدون أنّ الدّول الكبرى الّتي تهيمن على العالم وتتجبّر على الدّول الضعيفة كانت دائمًا كبرى وستبقى... وهذا كلّه غباء ما بعده غباء! وغرق في اللّحظة الرّاهنة اعتقادًا بأزليتها وأبديتها! وهذا ما لا يقبله عقل ولا علم ولا منطق ولا واقع!وتحصينا للمسلم من الوقوع في حضيض هذه النّفسية المنحطّة وهذه العقلية المتخلّفة نجد القرآن العظيم يهتمّ كثيرًا بغرس الوعي التاريخي لديه، تنبيهًا له على حركة الحياة وحركة التاريخ، وتقلّب أوضاعه الدّائمة وتغيّر أحواله المستمرّة، وكيف ترتفع أمم ثمّ تنزل أو تزول، وكيف تضعف أمم ثمّ تقوى وتعلو، فالقويّ من الأمم والشّعوب والدّول لا يبقى قويًّا دائمًا، والضعيف من الأمم والدّول والشّعوب لا يبقى ضعيفًا أبدًا، ويكفي العاقل قول الله تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس}. ”والمعنى أنّ مداولة الأيّام سُنّة من سنن الله في الاجتماع البشري، فلا غرو أن تكون الدولة مرّة للمبطل ومرّة للمحقّ. وإنّما المضمون لصاحب الحقّ أن تكون العاقبة له، وإنّما الأعمال بالخواتيم”.وهناك آيات كثيرة تركزّ هذا المعنى وتعزّزه في نفوس المؤمنين كقوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}. فقوله سبحانه وتعالى: {وقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} فيه طيٌّ لعصور ودهور وأمم ودول وشعوب وأحداث عديدة، لم تذكر تفصيلًا لكثرتها، وتهويلًا لأمرها، حتّى يستشعر العاقل هذه الحركة من ذهاب القرون ومجيئها، وظهور الدّول واندثارها، ونشؤ الإمبراطوريات وسقوطها.. دون تعيين وتحديد بالاسم؛ لأنّ هذه سُنّة ربّانية كونية عامة؛ ولهذا فهي تشمل النّاس جميعًا في كلّ الأماكن والأزمان، وهي قاهرة غالبة لا تحابي أحدًا، ولا يُفلت من حكمها أحدٌ، حتّى النّظام العالمي المعاصر سيخضع لسطوتها وحكمها، وسيتغيّر ويتبدّل، ويضعف أقوياؤها، ويقوى ضعفاؤه، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيل}. وهذا المعنى الدّقيق نجده يتكرّر في مواضع من القرآن العظيم، والقصد من ذلك ترسيخه في نفوس المؤمنين، وتذكيرهم به لأهمّيته ومركزيته في فهم الواقع وسيرورة التاريخ، يقول الله جلّت صفاته: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِين * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُون}، ويقول الحقّ عزّت قدرته أيضًا: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ}، {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُون}، {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}، وأولو النُّهى هم مُتناهو العَقْلِ كامِلُو الفِطْنة، الّذين يفكّرون تفكيرًا سليمًا، ويصدرون حكمًا قويمًا، دون انخداع بظواهر ولا اغترار بواقع، فهؤلاء هم يمتلكون هذا الوعي بالتاريخ وتقلّباته، فلا يحبسون عقولهم في حدود سنوات معدودة أو قرون محدودة يبنون عليها كلّ تصوّراتهم واعتقاداتهم، بل ينظرون إلى مسارات التاريخ نظرة واعية تحيط بخطّه طولًا وعمقًا، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا..}.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات