الدساتير وأهميتها في حياة الأمم والشعوب

+ -

تطور الحياة الإنسانية فرض على البشر وضع منظومة متكاملة من القوانين والأعراف واللوائح التي تسهل عليهم إدارة الحياة، تُصاغ كل هذه المبادئ في وثيقة صارت تعرف باسم (الدستور)، وتمثل قمة النظام القانوني للدولة. والدستور، كما يقول المتخصصون، كلمة فارسية الأصل تم تعريبها وهي مركبة من (دست) وتعني قاعدة، ومن (ور) وتعني صاحب. أما علماء القانون الدستوري، فيعرفونه بأنه “النظام الأساسي الذي يبين ويحدد العلاقات بين الحكام والمحكومين، والذي يُبين شكل الدولة ونوع الحكومة التي تدير هذه الدولة”، وهو أيضا القانون الأسمى بالبلاد، الذي يحدد شكل الدولة ويُبيّن السلطات المكونة لها، واختصاصات تلك السلطات وعلاقة بعضها مع بعض، والتزامات وحقوق الأفراد تجاه تلك السلطات وضمان هذه الحقوق.وليس هناك قواعد مسلم بها لنشأة الدساتير، وتختلف الطرق المتبعة باختلاف الدول من حيث ظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ودرجة النضج السياسي لدى الرأي العام فيها. ويلاحظ أيضا أن الأسلوب المتبع في وضع الدستور إنما يكشف المذهب السياسي الذي ينطوي عليه.لقد ساد النظام الملكي المطلق زمنا طويلاً في بلادٍ مختلفة، ولقد كانت جميع السلطات بمقتضى هذا النظام تتركز في يد واحدة هي يد الملكية التي كانت لها السيادة المطلقة، بمعنى أن الملك يعتبر نفسه هو السلطة والسيادة في الدولة فكان يمنح نفسه الحق دون غيره في وضع دستور للبلاد وتقديمه على شكل منحة.ولما ظهرت النظريات الفلسفية الاجتماعية المناهضة للحكم المطلق، بدأ الشعب يتحرك ويطالب بمشاركة الحكام في وضع الدستور، فصدرت الدساتير على شكل عقد بين الحاكم والمحكوم. وعندما انتشرت المبادئ الديمقراطية التي تعتبر الشعب مصدر السيادة الحقيقي، انفرد الشعب بوضع الدستور، فظهرت الدساتير عن طريق الجمعية التأسيسية أو الاستفتاء الدستوري أو الشعبي.يعتبر فقهاء القانون الدستوري أسلوب العقد في نشأة الدساتير خطوة إلى الأمام باتجاه الديمقراطية، حيث أن بهذا الأسلوب ينشأ الدستور باتفاق بين الحاكم والأمة وتظهر فيه إرادة الأمة إلى جانب إرادة الحاكم، وبالتالي فهو يمثل مرحلة انتقال بين مرحلة انفراد الحاكم بوضع الدستور وبين انفراد الأمة وحدها في ذلك. وهي مرحلة تبدأ فيها ظاهرة استئثار الحاكم بالسلطة بالتراجع تاركة المجال لسلطان الأمة بأخذ مكانها ـ بافتراض اندلاع أزمة بين الشعب والملك أو الحاكم تؤدي إلى ـ اشتراك الأمة مع الحاكم في وضع الدستور وإنشائه بآليات متعددة.إن الدستور مرآة الشعوب، يعبر عن نفسه في آماله وطموحاته ومقدار الوعي الذي هو عليه، فنرى صورا من هذا الوعي تتجسد في أبهى صورها تحت سلاسل المدرعات دفاعاً عنه، وعلى الضفّة الأخرى نرى من لا يقيم للدستور نقيرا، حينئذ ندرك أن الذي يحدد نشأة الدستور وما إلى ما ذلك إنما هو وعي الشعوب بحقوقها وحرياتها، وهذا ما نفتقده اليوم في جل شعوب بلادنا العربية والإسلامية، دستور يعبّر عن هوية الأمّة وتطلعاتها.يعد الدستور المرجع الأساسي لكافة القوانين والتشريعات، حيث يراعي فيه ألا يكون هناك تعارض أو تناف أو تداخل بين قوانينه وسلطاته، وهو في المقام الأول لكل القوانين والتشريعات في أي نظام سياسي، كما أنه يقوم بتوضيح وشرح أبعاد الحقوق الاجتماعية والقوانين الاقتصادية الحاكمة للأفراد، وتوضيح دور الدولة في تنظيم اقتصادها بما يتماشى مع سياستها من خلال الدستور، والعمل على تحقيق التوازن بين مصلحة الأفراد والدولة مع الالتزام بأسس السياسة الخاصة بالدستور، كما أنه يحتوى في تعريفاته وتشريعاته على وضع قوانين وتشريعات تعمل كضمان أساسي لحماية المجتمع والدولة ولغتها الأساسية ومرجعيتها السياسية.والفقه الدستوري يعني العلم بالدستور ضمن موضوع القانون، والفقه الإسلامي يعني العلم بالأحكام الإسلامية. أما إن تحدثنا عن موطن البداية، سنجد أن الفقه الدستوري كان مؤسسًا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم فيما يُعرف بدستور المدينة، وقد غُيِّب الفقه الدستوري من الأنظمة الاستبدادية والأنظمة العسكرية التي حرمت الشعوب من مطالبها العامة ومن الوصول إلى دولة الدستور.وإن أول دستور في الإسلام، وضعه سيد الأنبياء والمرسلين في المدينة المنورة.. فبعد الهجرة وتأسيس الدولة، أصدر صلى الله عليه وسلم أول دستور سياسي في تاريخ البشرية وهي (وثيقة المدينة) بمثابة دستور لأول دولة إسلامية لها كل أشكال المدنية مكوّن من (52) مادة: هناك حوالي (25) منها خاصة بأمور المسلمين، والباقي مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى.فهذه الوثيقة يمكن أن تكون الأولى من نوعها في التاريخ، تضع أسسا متقدمة للاجتماع السياسي على أساس التعددية وحرية العقيدة والعبادة.يقول الفقيه ابن عقيل: “السياسة الشرعية هي ما يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم ترد في القرآن والسنة”.كل ما يجلب المصالح الحقيقية ويدرأ المفاسد الحقيقية فهو من الشريعة، وكل ما تنصص عليه الدساتير بكل ما نحتاجه فهو من الشريعة، ما دام لا يلغي شيئًا من الشريعة ولا ينصص على إلغاء شيء منها، فهو من الشريعة، فالدساتير والقوانين غير المنافية لأحكام الدين الإسلامي تعد من الشريعة.إن الإسلام لم يضع شكلا محددا للحكم ولا لمشاركة المواطنين فيه، بل ترك ذلك للإبداع البشري وتطويره بحسب ما تمليه مسيرة الإنسان الحضارية. وأي شكل جديد يقرب من النموذج المأمول، فهو ليس فقط مرحبا به، بل من الواجب دينا ودنيا الاستفادة منه إلى أقصى درجة ممكنة.

[email protected]

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات