+ -

 قال الله تبارك وتعالى في جمع من أنبيائه عليهم السّلام: {وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}، فقال عن سيّدنا نوح عليه السّلام: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}، وقال عن سيّدنا إبراهيم عليه السّلام: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِين}، وقال عن سيّدنا إلياس عليه السّلام: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى ألْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}.ومعنى: {وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: يذكر بخير. وقال قتادة {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}: أبقى الله عليه الثّناء الحسن في الآخرين.وجاء في التفسير في معنى الآية أيضًا: قيل: تركنا عليه ثناءً جميلًا، ثناءً حسنًا؛ فحذف الثّناء لعلم المخاطب به، وقيل: ذِكرًا جميلًا وثناءً حسنًا في الآخرين، يعني: فيمن تأخَّر بعده من النّاس يذكرونه به. وقيل: أبقينا عليه فيمن بعده إلى يوم القيامة ثناءً حسنًا. وقيل: ثناء جميلًا في الأمم بعدهم، فما من أمّة إلّا تُصلّي عليهم وتسلّم وتحبّهم. وهذا كلّه تنوّع عبارة والمعنى واحد وواضح.ومن دعاء سيّدنا إبراهيم عليه السّلام: {واجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}، أي: واجعل لي ذِكرًا جميلًا وثناءً حسنًا بعدي، باقيًّا فيمن يجيء من القرون بعدي، أذكر به، ويقتدى بي في الخير.والذّكر الحسن بين النّاس والثّناء الخالد هو عاجل أجر الإنسان، والّذي لا ينقص من أجر آخرته شيئًا، كما قال سبحانه عن سيّدنا إبراهيم عليه السّلام: {وآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين}، فأجرُ الدّنيا هو الذّكر الحسن والثّناء الخالد، ومثل هذا قاله سبحانه أيضًا عنه: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}؛ فالحسنة في الدّنيا تشمل فيما تشمل الذّكر الحسن والثّناء الخالد. وهذا الذّكر الحسن هو من عاجل الخير والأجر الّذي يسبّق للعبد الصّالح في دنياه قبل أن يوفيَه الله أجره كاملًا تامًّا يوم القيامة، عن أبي ذَرٍّ الغفاريّ رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرأيت الرّجل يعمل العمل من الخير ويحمده النّاس عليه؟ قال عليه السّلام: «تلك عاجلُ بُشرى المؤمن» رواه مسلم. “أي البشر ىالمعجلة، وهي عنوان الخير له، ودليل على رضا الله عنه وحبّه له، فيعطيه سبحانه تعالى به ثوابين: في الدّنيا وهو حمد النّاس له، وفي الآخرة ما أعدّ الله له”.ولا شكّ أنّ العاقل يحرص على أن تكون له سمعة طيّبة في حياته، وذِكرًا حسنًا بعد مماته، بل إنّ من توفيق الله للعبد أن يرزقه سمعة طيّبة وذِكرًا حسنًا باقيّا. ولن يَتأتّى ذلك للعبد ويتيسّر إلّا بوجود أمور: أوّلها: الإخلاص والصّدق مع الله تعالى. وثانيها: العمل الصّالح. وثالثها: الفضل الرّبانيّ والتّوفيق الإلهيّ. وهذا الأخير هام جدًّا فيما نحن فيه، ذلك أنّه يوجد الكثير من المخلصين الصّادقين، المجتهدين في العمل الصّالح، ولكن لم يكتب لهم الذّكر الحسن والثّناء الجميل، الدّائمان مدى الأيّام؛ لأنّ هذا محض تفضّل وتكرّم من الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}؛ فمن رزقه الله ذِكرًا حسنًا وثناءً خالدًا فقد اصطفاه وأكرمه أيّ إكرام.وفي مقابل هذه المنقبة العظيمة والمنّة الرّبانية الجسيمة تجد من النّاس من خذله الله، وابتلاه بشيوع صِيته السّيئ بين النّاس، وبقاء ذكره القبيح مدى الزّمان، وما ذلك إلّا لسوء طَويته، وخبث نيته، وفساد عمله، وإن تظاهر بغير ذلك، فالله عزّ شأنه {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، و{إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ولكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، فمن قُضي عليه بالذكر السّيئ والصّيت القبيح والسّمعة الرّديئة إنّما قضي عليه بذلك بما كسبت يداه وبما اقترفت نفسه. وأعجب هؤلاء حالًا وأغربهم من يسعى ويحرص الحرص كلّه على الشّهرة وذيوع الاسم وشيوع الذّكر بأيّ ثمن؟! فيعمل أيّ شيء ولو كان فعلًا حرامًا أو عيبًا!، ويقول أيّ شيء ولو كان قولًا باطلًا أو فُحْشًا! ويتّخذ أيّ موقف ولو كان نفاقًا وخِزيًا! ويلبس أيَّ لبوس ولو كان تهريجًا وسُخفًا!نجد هذا الصّنف في كلّ مناحي الحياة: نجدهم في المجال الفني يمثلهم أولئك الممثلين أو الممثلات الفشلة، الّذين يمثّلون أدوارًا فيه جرأة وهتك لحُرمات المجتمع من أجل الشّهرة وذيوع الاسم! نجدهم في المجال الأدبي يمثّلهم أولئك الكتّاب الفشلة، الّذين يروّجون لشعرهم وقصصهم ورواياتهم المتواضعة أو الضّعيفة بالاستهزاء بالمقدّسات والاستخفاف بثوابت المجتمع والولوع بالخنا والفجور! نجدهم في المجال السّياسي يمثّلهم أولئك المهرّجون من السّياسيين، الّذين لا يملكون خطابًا مقنعًا، ولا برنامجًا حافلًا، ولا مشروعًا متميّزا، ولا صدقًا مَكينًا، ويستعيضون عن كلّ ذلك (بخرجات) وتصريحات محزنة مخزية، القصد منها جلب اهتمام النّاس وشغلهم بالحديث عن صاحبها، وهذا ما توفرّه وسائط التّواصل الجماعيّ وفرة بالغة! ونجدهم.. ونجدهم.. ونجدهم..فلا يخلو جانب من جوانب الحياة (حتّى جوانب الظّلّ) من أمثال هؤلاء! ولا همَّ لهؤلاء سوى الشّهرة وذيوع الذِّكر، على أيّ وصف كان ذلك.وذكّرني هؤلاء قصة ذلك الأعرابي الّذي جاء في الحجّ حتّى عَلَا على بئر زمام وبال فيها (أكرمكم الله)، فلمّا نهره النّاس ولاموه على فعلته الصّلعاء، قال: أحبّ أن يذكرني النّاس ولو باللّعنات!!!* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات