+ -

 إنّ البيئة المدنية الحجازية هي الّتي نشأ فيها مالك رضي الله عنه، حيث كانت هذه النشأة مبنية على منهج جامع بين الأثر والنّظر، النّقل والعقل والفقه والحديث، إلّا أنّه كان رضي الله عنه بالأثر والنّقل والحديث أعلق، ويرجع جانب الرأي في تكوين مالك الفقهي إلى الأثر القويّ لشيخه ربيعة بن أبي عبد الرّحمن أو ربيعة الرأي في ذلك التّكوين.وبظهور مالك رجل التّأصيل والتّنظير، وانتهاء إمامة دار الهجرة إليه ظهرت معه طريقة الاجتهاد الجديد المعتمد على الفقه المتأصّل بدار الهجرة الّذي ورثته المدينة المنورة من الصّحابة والتّابعين وكبار الفقهاء ومنهم الفقهاء السبعة – الّذين لم يذكرهم مالك وإنّما حاز ما تركوه ممّن أدركوهم – ومادته النّقل أو العلم، وما تلقّاه من الرّأي من شيوخه المباشرين كما سبق بيانه.فمالك لم يتلق ما تلقاه من ذلك إلّا وهو مفصل إلى علم وفقه أو إلى سُنّة ورأي، وبذلك عرفت شخصيته أنّ فيها جانبين جانب العلم أو الحديث، وجانب الفقه والنّظر، وكان يقصد للأمرين معًا، وكان القاصدون إليه ثلاثة أصناف.الصنف الأول: وهم الرّجال الّذين قصدوا مجلس مالك طلبًا للرّواية، رواية الأحاديث الصّحيحة الّتي تلقّاها مالك وعرف بتمام التحرّي فيها ودقّة ضبطها إلّا أنّ هؤلاء الرّجال قصدوا مالكًا وهم متكوّنون تكوينًا فقهيًا عاليًا وعلى مناهج مقابلة لمنهج مالك بن أنس، فمنهم مَن بلغ درجة الاجتهاد كعبد الله بن المبارك ومنهم من قاربها كمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة وغيرهم كثر، أحصى منهم علماء الحديث أكثر من ألف، وقد خصّهم الخطيب البغدادي والقاضي عياض بالتأليف كما ذكر ذلك الفاضل ابن عاشور رحمه الله.الصنف الثاني: وهم الرّجال الّذين قصدوا مالكًا للتفقّه على يديه وملازمة دروسه ومجالسه وتتبّع منازعه في الإفتاء في المسائل المعروضة عليه واكتشاف مسالكه وطرق استنباطه في اجتهاده والتعرّف لأدلّته حتّى يتخرّجوا فقهاء على طريقته وهؤلاء هم الّذين يكونون فيما بعد من كبار أصحابه في الأمصار الّتي انتشر فيها علم مالك، وكان لهم الفضل فيه مثل المدينة، ومصر، والعراق، وإفريقية، والأندلس.الصنف الثالث: وهم عامة النّاس الّذين تحدّث لهم أقضية كثيرة وتنزل بهم وقائع ونوازل مختلفة فيريدون معرفة حكم الله فيها فيستفتونه في ذلك الأمر فيفتيهم فيه، هؤلاء من أهل المدينة، ومن يقصدونه لنفس الغرض من خارج المدينة أو من الّذين ينتهزون فرصة وجودهم بها للحجّ أو لغير ذلك.ولقد كان لهذه الأصناف الثلاثة من النّاس أثر كبير في اتساع دائرة المسائل الّتي تكلّم فيها مالك رضي الله عنه وتنوّع صورها وتشعّب تفاصيلها، وقد تؤدّي تلك المسائل أحيانًا إلى قيام المعارض لما رآه مالك فيها من الحكم ممّا يضطرّه لمناقشتها وبيان مأخذه ومستنده فيها ممّا يزيد الفقه ثراء والأذهان دراية ومرانًا.ويرى الفاضل ابن عاشور أنّ تعاطي مالكًا للفقه لم يكن مقتصرًا على الإفتاء بالمشافهة، ولكنّه دخل به في التّدوين الكتابي بتصنيفه كتاب “الموطأ” الّذي كان به أوّل السّابقين للتّصنيف، فكان تصنيفه ذلك أعلى إلى تخيّر الألفاظ وتحقيق محاملها، وإقرار استعمالاتها على صورة مصطلح عليها.وقد بين مالك تفاصيل بنائه الأصولي تصريحًا وتلميحًا وجزئيات منهجه في النّظر في الأدلة ونقد الأوضاع الفقهية، في عمله الجليل هذا، الّذي إن لم يكن أوّل تأليف في الإسلام، فهو من أوضاعه الأولى إلى جانب ما روي عنه من طريق أصحابه في الكتب الّتي جمعت الرّوايات عنه مثل: ”المدونة” و”العُتَبية”، و”الواضحة”، وغيرها.وقد بيّن العلامة أبو بكر بن العربي ذلك عن الموطأ فقال: (هذا أوّل كتاب ألّف في شرائع الإسلام، وهو آخرها، لأنّه لم يؤلّف مثله، إذ بناه مالك رضي الله عنه على تمهيد الأصول للفروع ونبّه فيه على معظم أصول الفقه الّتي ترجع إليها مسائله وفروعه، وسترى ذلك إن شاء الله عينًا وتحيط به يقينًا عند التّنبيه عليه في موضعه).ويكفي في هذا المقام ما كتبه ابن عساكر في فضل الموطأ.واستنادا إلى هذا المعنى من التّفكير المبني على الأثر والنّظر والسُّنّة، والرأي والمشافهة والتّدوين، تسلسل الفقه المالكي واسترسل في طبقات رجاله من خلال أدوار ومناهج حكمت حركة التّأليف والتّدريس في هذا الفقه.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات