أصحاب الأقوال الجميلة المنمقة والأفعال الرذيلة المحرقة!

38serv

+ -

 استمعت بالأمس لأحد قادة الميليشيات الإجرامية الّتي عاثت في بلادها فسادًا، وفي دماء النّاس سفكًا، فإذا به يصف خصومه وأعداءه بالميليشيات الإجرامية! وكأنّه رئيس لمنظمة حقوق الإنسان أو سلام بلا حدود مثلًا! وهكذا حينما تستمع للتّراشق الإعلامي بين الدول المتصارعة على النّفوذ في دول أخرى على حساب شعوب مسكينة، كلّ طرف منهايتّهم الطرف الآخر بالإرهاب أو دعم الإرهاب! وكأنّه هو حامي السّلام ومنقذ البشرية!، مع أنّ كلّ الأطراف غارقة في دماء الأبرياء وتدمير ديارهم!ومثله أيضًا حين تستمع إلى الخطب العصماء لبعض الحكام الّذي وصلوا إلى الحكم على ظهر دبابة تسبح على دماء الشّعب، وهم يعلمون النّاس في خطبهم هذه الديمقراطية والشّورى والعدل والنّزاهة والوطنية... الخ. وعلى هذا السّبيل كذلك خطب قادة العالم، وخاصة رؤساء الدول الغربية الّذين نصّبوا أنفسهم أولياء وأوصياء على البشرية، ولا ينسون في كلّ مناسبة أن يتباكوا على حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وحقوق الشّعوب والسّلام العالمي...! وما دمرّ هذه الأمور وكلّ شيء جميل في حياة النّاس إلّا هم ودولهم وجيوشهم وغطرستهم!أستمع إلى كلّ هذا الغثاء والخداع، فأتذكّر قول الحقّ سبحانه في كتابه العظيم، وهو يفضح سبيل المجرمين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}. ففي هذه الآيات يصف الله عزّ وجلّ هذا الصّنف المنافق الخطير على البشرية واستقرارها وسلامها بخمس صفات قبيحة:الصفة الأولى: قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي يروقك ويعظم في قلبك، فإذا تكلّم راق كلامه للسّامع، وإذا نطق ظننته يتكلّم بكلام نافع، ولكنّه الخداع والنّفاق والخِتال الّذي يظهر في قبيح الفعال، قال الشّيخ عبد الكريم الخطيب رحمه الله: “وفي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ} فضح للكلمة المنافقة تنطلق من فم المنافق، مُنمقة، مُزوّقة، مُمَوّهة ببريق لامع يضلّل ويخدع. فهناك طوائف من النّاس تتّخذ من الكلمة الخادعة المنافقة طريقًا لترويج الباطل، فيضعون على ألسنتهم كلمات معسولة، تفيض رقّة وتتناغم حنانًا ومودة، ولو ذهبت تفتش في ثناياها، وتنظر في أطوائها لوجدتها تنغر قيحًا وصديدًا، وتفور زفيرًا وفحيحًا، بما تحمل في كيانها من حسد وبغضاء”.الصفة الثّانية: قوله تعالى: {ويُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} أي أنّه يقرّر صدقه في كلامه المعسول ودعواه المموّهة بالاستشهاد بالله، إمّا بالحلف واليمين، وإمّا بأن يقول: الله يشهد بأنّ الأمر كما قلت. قال الشّيخ سيد طنطاوي رحمه الله: “وكأنّ هذا النّوع المنافق قد رأى من النّاس تشكّكًا في قوله؛ لأنّ من عادة المنافقين أن يبدو منفلتات لسانهم ما يدلّ على ما هو مخبوء في نفوسهم فأخذ يوثّق قوله بالأيمان الباطلة بأن يقول لمن ارتاب فيه: الله يشهد أنّي صادق فيما أقول..”.الصّفة الثالثة: قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ} فالواحد من هؤلاء المخادعين يبالغ في الخلابة والتّودّد إلى النّاس بالقول، وهو في حقيقته أشدّ النّاس مخاصمة وعداوة لمن يتودّد إليهم، أو هو أشدّ خصمائهم في فعاله. وقد يكون المعنى أنّه قوي العارضة في الجدل لا يعجزه أن يختل بالنّاس ويغشهم بما يظهر من الحرص على إسعادهم ومصالحهم، وإقناعهم بالقول المنمّق.الصفة الرّابعة: قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا  وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}، قال الإمام الأستاذ محمد عبده رحمه الله: “في تفسير التّولّي هنا قولان: أحدهما: أنّ صاحب الدَّعْوَى القولية إذا أعرض عن مخاطبه وذهب إلى شأنه فإنّ سعيَه يكون على ضدّ ما قال، يدّعي الصّلاح والإصلاح وحبّ الخير، ثمّ هو يسعى في الأرض بالفساد... والقول الآخر: أنّ المراد بـ (تَوَلَّى) صار واليًّا له حكم ينفّذ وعمل يستبدّ به، وإفساده حينئذ يكون بالظّلم مخرّب العمران وآفة البلاد والعباد، وإهلاكه الحرث والنّسل يكون إمّا بسفك الدّماء والمصادرة في الأموال، وإمّا بقطع آمال العاملين من ثمرات أعمالهم وفوائد مكاسبهم. ومن انقطع أمله انقطع عمله، إلّا الضّروريّ الّذي به حفظ الدّماء، ولا حرث ولا نسل إلّا بالعمل”.الصفة الخامسة: قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} أي: وإذا قيل لهذا المنافق على سبيل النّصح والإرشاد: اتّق ربّك واترك ما أنت فيه من نفاق وخداع وإفساد، استولت عليه العزّة وحمية الجاهلية مقترنة بالإثم ومصاحبة له، ولجّ في غيِّه وزاد من ظلمه وفساده وإفساده. قال الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله معلّقًا على هذه الصفة الخامسة: “هذا الوصف ظاهرٌ جدًّا في تفسير التّولّي بالولاية والسّلطة، فإنّ الحاكم الظّالم المستبّد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة، أو يحذّر من مفسدة؛ لأنّه يرى أنّ هذا المقام الّذي ركبه وعلاه يجعله أعلى النّاس رأيًا وأرجحهم عقلًا، بل الحاكم المستبّد الّذي لا يخاف الله تعالى يرى نفسه فوق الحقّ كما أنّه فوق أهله في السلطة، فيجب أن يكون أَفَنُ رأيه خيرًا من جودة آرائهم، وإفساده نافذًا مقبولًا دون إصلاحهم، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له: اتّق الله في كذا؟ وإنّ الأمير منهم ليأتي أمرًا فيظهر له ضرره في شخصه أو في ملكه، ويودّ لو يهتدي السّبيل إلى الخروج منه، فيعرض له ناصح يشرع له السّبيل فيأبى سلوكها، وهو يعلم أنّ فيها النّجاة والفوز إلّا أن يحتال النّاصح في إشراعها فيجعله بصيغة لا تشعر بالإرشاد والتعليم، ولا بأنّ السيد المطاع في حاجة إليه”. وهذا الصنف المعتوه من المسؤولين هو البلاء الماحق الّذي ابتلي به النّاس في هذه الأزمان البئيسة.وأحسب أنّ هذه الآية الجليلة تنبّهنا إلى صفات كثير من المخادعين المخاتلين المعاصرين، الّذين إن خدعوا النّاس فلن يخدعوا ربّ النّاس: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، وإن نجوا من العذاب في الدّنيا فلن ينجوا من عذاب الآخرة: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات