+ -

يقول الحقّ سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.إنّ المتأمّل في هذه الآية وفي غيرها من نصوص القرآن الكريم المتعلّقة بموضوع الفساد، يجد أنّ ربّنا سبحانه قد أولى الحديث عن بُغاة الفتنة والمفسدين في الأرض عناية خاصة، وذلك لبيان ضلالهم، وإظهار غيّهم وخطرهم على الدّين والوطن، فقد أخبرنا سبحانه أنّ الأنبياء والمصلحين في كلّ زمان ومكان ينهون عن الفساد، ويحذّرون من المفسدين، فهذا موسى عليه السّلام يوصي أخاه هارون بعد أن استودعه ليذهب لمناجاة ربّه: كن خليفتي في قومي، وراقبهم فيما يأتون ويذرون، فإنّهم في حاجة إلى ذلك لضعف إيمانهم، واستيلاء الشّهوات والأهواء عليهم: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}.كما نهى الحقّ سبحانه عن الإفساد فقال: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، وأخبر جلّ وعَلا أنّه لا يُحبّ الفساد ولا المفسدين: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَالله لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، وأمر سبحانه بالإحسان ونهى عن الفساد فقال متحدثًا عن طغيان قارون وإفساده في الأرض: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، وبيّن سبحانه أنّه من المحال التسوية بين الصّالح والطّالح، وبيّن المصلح والمفسد: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}.واعلم رعاك الله أنّ من أشدّ النّاس إفسادًا المنافقون، فهم يحاولون أن يَلْبسوا ثياب المصلحين، ويظهروا أنفسهم بأنّهم يريدون الإصلاح: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}، وأقبح ممّا تفوّهوا به اتهامهم للمصلحين بالإفساد، فهذا إمام المفسدين فرعون يتّهم موسى بالإفساد، ويحاول أن يقنع قومه بذلك: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}. وقد فضح كتاب الله المفسدين فبيّن كذبهم وتدليسهم، وادعاءهم الصّلاح والإصلاح: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.والمفسدون يتفننون في صور وأشكال فسادهم وغيهم، فمن ذلك نقض العهود وعدم الوفاء به، وقطع الأرحام التي أمر الله أن توصل: {الذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِه وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، ومن صور فسادهم الإسراف ومجاوزة الحد في الغي والتمادي في المعاصي: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ الله وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، ومن ذلك إدمانهم السحر: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ، إِنَّ الله لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ}، وقد سمى الله عمل السحرة والسحر بأنه عمل المفسدين، وذلك لما يترتب عليه من فساد الأسر والتفريق بين الزوجين وخراب البيوت.ومن فسادهم الجبروت والتكبّر على العباد، تأسيًا برمز الكبر قارون الّذي قال له قومه: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.وممّا تقع فيه هذه الشّرذمة ما حدث ويحدث في بعض مناطق بلادنا العزيزة، من إيقاد للنّيران، وما انجرّ على ذلك من قتل للأنفس، وزهق للأرواح، وحرق للأحراش والغابات، ونفاق للبهائم والممتلكات، وتالله إنّ هؤلاء المفسدين ليصدق فيهم قول الحقّ سبحانه: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}.إنّ خفافيش الظّلام يبهرها النّور، فلا تستطيع أن تتحرّك وتعمل إلّا تحت جُنح الظّلام، متسبّبة في قتل الأنفس البريئة: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.أتُرى نسي هؤلاء أم تناسوا أنّ قتل وترويع الآمنين جريمة نكراء، وكبيرة من كبائر الذّنوب، ففي السنن: «لزوال الدّنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم»، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا”. والله وليّ التّوفيق.*إمام مسجد عمر بن الخطّاب، بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات