+ -

 شهرة العالم أو الدّاعيةِ وذيوعُ صِيته بين النّاس، والتفافهم حوله، وكثرة محبّيه ومتّبعيه، كلّ هذا من رزق الله تعالى وفضله، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، ولا ريب أنّ من أسبابها الإخلاصَ وصدق النّية، والخبيئة الصّالحة (وهي عمل صالح مخلص سرّ بين العبد وربّه)، كما قال الإمام القعنبيّ عن الإمام مالك رحمهما الله: “ما أحسب مالكًا بلغ ما بلغ إلّا بسريرة كانت بينه وبين الله تعالى”. وأيضًا: التّوفيق والتّيسير والقَبول من الله تعالى إلى غيرها من الأسباب الغيبية الّتي لا يحقّ لنا الخوض فيها عن عماية، فلا يحقّ لأحد أن يزعم إثبات شيء ممّا ذكر، لا لنفسه ولا لغيره، ولا يحقّ لأحد أن يزعم نفي شيء ممّا ذكر عن أحد من النّاس.في مقابل هذا توجد أسباب موضوعة واقعية لهذه الأمور يمكن للنّاس تقييمها، في مقدمتها: المستوى العلمي الرّفيع للعالم أو الدّاعية، وتميّز طرحه وتميّز المواضيع الّتي يتناولها، وحسن خطابته ومحاضره وكتابته، وتجديده وإبداعه إلى غير ذلك. ومنها كذلك أنّ بعضًا منهم يحسن قراءة الواقع وسياقاته، فيحسن استغلال الفرصة، ويركب موجة من الأمواج توصله إلى الشّهرة والمكانة، كأن يركب (موضة) تشيع في فترة من الفترات أو تيارًا ينتشر (أو يُنشر) في وقت ما، وقد رأينا من ركب موضة (التنمية البشرية) وصار يهرف بما لا يعرف، والنّاس حوله يردّدون: رائع ممتاز!، ورأينا من ركب تيارًا دعويّا وتزيَّ بزيّه وردّد مقولاته وفتاويه، ونال بذلك حظوة وشهرة لمجرد الانتساب!، ومنها أيضًا أنّ بعضًا منهم تبنّته جهات رسمية أو إعلامية، ودعّمته سرّا وعلانية وبرّزته، وفتّحت له كلّ الأبواب والنّوافذ فصار يطلّ على النّاس في كلّ وقت، وعامة النّاس يعتقدون أنّه لو لم يكن وحيد زمانه وفريد أقرانه لما نال ما نال.. إلخ.بيد أنّ ثمّة سببًا غريبًا ظريفًا وراء شهرة بعض العلماء والدّعاة وذيوع صيتهم وكثرة تابعيهم، وقد يعجب البعض أو الكثير منه، لكن إنْ فكّروا فيه بعمق رأوه رأي العين في الواقع، وربّما في من يعرفون من بعض الدّعاة والعلماء أو أدعياء العلم والدّعوة!، هذا السّبب هو: ضعف مستواهم!، وسطحية طرحهم!، وعامّية تفكيرهم!، نعم إنّ بعضًا ممّن ذكرت محدودين جدًّا في العلم!، سطحيين جدًّا في الفكر!، ومع حرصهم على تصدّر المجالس فهم يكتفون بتكرار معلومات معروفة للجميع من شدّة تكرارها!، ويهربون للوعظ والكلام العاطفي لسهولته ويسر تعاطيه!، أو يفرّون للتراث العلمي والأدبي الزّاخر لأمّتنا، يردّدون قصصَه وحكاياتِه مِمّا يستحليه متوسطو الثّقافة والبسطاء من المسلمين؛ لجاذبيته ومتعته!. وهذا ما أسمّيه: (العلم المريح)، فهو مريح للمتكلّم به؛ لأنّه لا يتعب في تحصيله ابتداءً، لتيسرّه لكلّ من رامه، فليس هو كالعلم الحقّ الّذي لا يُنال براحة الجسد كما قال أسيادنا العلماء!، ولأنّه لا يتعب في توصيله انتهاءً، لكونه تكرارًا لا يتطلّب جهدًا متجدّدًا في تبليغه!. وهو مريح للمستمع؛ لأنّه يجد فيه متعة وترفيهًا عن النّفس من جهة، وهو لا يزعجه من جهة ثانية؛ فلا يجد نفسه مطالبًا ببذل جهد لفهمه واستيعابه، ولا ببذل جهد لتقليب الفكر فيه ونقده، ولا ببذل جهد لمحاكمة حياته إلى مضامنه، والسّعي لسياسة نفسه وحياته بأحكامه، ولا بالضغط على نفسه لتغيير عاداته وأخلاقه وفق هديه وما يرشد إليه!. بل هو مجرّد (علم مريح) يخرج المتكلّم والسّامع من ضغط الواقع وقلقه وإكراهاته هنيهة، ثمّ تعود كلّ الأمور لِما كانت عليه، وهكذا دواليك!.وفي هذا المعنى الدّقيق يقول المفكّر الكبير والأديب الأريب سيد قطب رحمه الله تعالى: “إنّ الطّبائع (العلمية) الممتازة، والنّفوس الغنية الموفورة، أقلّ عددًا في هذه الحياة من الطّبائع الشّائعة المكرورة والنّفوس المحدودة التّجاريب. وينشأ من هذا أنّ الفنّ العادي المريح، الّذي لا يكلّف النّفوس عناء في التّصور، وجهدًا في الإدراك، أشدّ صيرورة من (العلم) الممتاز -ما لم تتدخّل في الأمر عوامل أخرى غير العوامل (العلمية) البحتة- لأنّ كثرةَ القرّاء في كلّ جيل يعجبها (العالم) المريح، الّذي لا يعلو على طبائعها كثيرًا، بل يشايعها في تصوّرها وإحساسها بالحوادث والأشياء، وتجد في (علمه) صدى تجاربها النّفسية المحدودة، وطبائعها الشّعورية الشّائعة. ولكن الخلود لا يكتب إلّا لذوي الطّبائع الضّخمة، الّذين قد يلمون في الطّريق بما هو شائع مشترك في النّفس الإنسانية، ثمّ يحلّقون في آفاقهم الخاصة، حيث يرقبهم النّاس كما يرقبون النّجوم البعيدة..”. ثمّ يقول كلامًا هامًّا: “وحكم جيل واحد لا يكفي، فلابّد من تتابع الأجيال في كثير من الأحوال؛ ليتبيّن البهرج الزّائف الرّخيص، من المعدن الأصيل الثمين”.وهذا حقّ وصدق، وهو بعض معاني قول الله عزّ وتبارك: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}. وهكذا كثير ممّن نال شهرة من الدّعاة أو العلماء أو أدعياء العلم قد يعدّهم النّاس مرجعية عُليا في زمن ما، -وخاصة في زمن رديء كالزّمن الّذي نعيش فيه- ويجعلون رأيهم هو القول الفصل في تخصصّهم وخارج تخصصّهم!، ويجعلونهم النّموذج للعالم، فلا يذكر علماء الشّرع إلّا ذكر العوامُ أسماءَهم حسبانًا ووهمًا لا غير! .. ولكن حين تنقشع الغيوم سيكتشف النّاس أنّ هؤلاء لم يقدّموا الكثير، بل كرّروا واجترّوا تراث القرون، فلم يتعبوا اجتهادًا، ولم يجهدوا في رفع مستوى عموم النّاس، واكتفوا ببسط (العلم المريح) الّذي خدمه السّابقون ومهّدوه خير تمهيد، وعندها سيسقط في أيدي كثيرين حين يستوعبون كيف أنّ هؤلاء الدّعاة والعلماء بسبب بريق الشّهرة صرفوهم عن العلماء العاملين والدّعاة الصّادقين، الّذين كانوا يسعون ويجهدون في سبيل الإصلاح ورفع السّوية الإيمانية والعلمية والفكرية لشعوبهم، وشغلوهم عن الاستفادة منهم بقضايا لا تقدّم ولا تؤخرّ، نشأت في قرون سابقة، وشغلت قرونًا لاحقة، وتجاوزها واقعنا بما جدّ من مشاكله وتحدياته، الّتي تتطلّب خطابًا جديدًا واجتهادًا متجدّدًا، ودعاة وعلماء مجدّون مجدّدون!!.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات