+ -

أخبرني أحد أئمة العاصمة أنه خلال الأسبوع الماضي خرج ليصلِّيَ بالنّاس صلاة العصر، فلم يجد إلَّا نصف صفّ مع التباعد، فإذا كان هذا واقع الحال في العاصمة الأكثر كثافة من حيث عدد السكان، فكيف هو يا ترى حال مساجد المناطق الأخرى؟لقد كانت الجزائر مضرب المثل في محافظة أبنائها على الصَّلاة في المساجد مقارنة بدول عديدة تشكو مساجدها عقوق روَّادها الّذين لا يعمرونها إلَّا في صلاة الجمعة والأعياد، مثل “صلاة القيّاد” كما يقال، أمّا باقي الصَّلوات فلا يجتمع فيها إلَّا بضعة صفوف أو أقلّ من ذلك، بينما كانت مساجد الجزائر قبل كورونا تشهد إقبالًا وإن لم يكن في مستوى هذه الشّعيرة إلَّا أنَّه لم ينحدر إلى الدّركات السُّفلى الّتي نشهدها هذه الأيَّام.فقد كانت المساجد الكبيرة وسط المدن الكبرى تعرف زحامًا في شهود صلاة الجماعة، خاصّة في صلاتي المغرب والعِشاء، ولم يكن اليُتْم إلَّا في صلاة الصُّبح إلى أن أغلقت المساجد في 17 مارس 2020، ولم تفتح إلَّا في 15 أوت 2020، فاضطرَّ المصلُّون إلى التّعوّد على الصَّلاة في البيوت طوال تلك المدة حتّى إذا فتحت المساجد بعد ذلك تناقص عددهم إلى نحو النِّصف تقريبًا، كما أنَّ استمرار تطبيق البروتوكول الصِّحيّ على مستوى المساجد دون غيرها من المؤسّسات والفضاءات الأخرى صار عبئًا ثقيلًا لم يقو على تحمّله البعض، فاختاروا الانسحاب تخفّفًا من ذلك العبء، حتَّى إنّ أحدهم كان مارًّا بجوار المسجد وقت الصَّلاة، فسئل: لماذا لا تدخل تصلِّي؟ فأجاب إنّه لم يحمل معه (الماتريال تاع) الصَّلاة من كمامة وسجّادة!! بالإضافة إلى غلق بيوت الوضوء، دون الحديث عن غلق مرشّاتها دون المرشات العمومية، الأمر الّذي أحال القائمين عليها على البطالة، وسؤال النّاس!كما أسهمت فتاوى التّرخيص بعدم حضور من يخاف الإصابة بالعدوى (أن يُصاب أو يُصيب) من زعزعة قلوب المحبِّين لصلاة الجماعة، زعزعة منعتهم من الحضور، ودون أن تتزعزع تلك الفتوى، رغم كلّ التّغيّرات الّتي لحقت بالوضع الصِّحيّ، كما أنّ تعليق الدّروس ومجالس العلم وحلقات التّعليم القرآنيّ أجهز على الرِّئة الّتي تتنفّس منها مساجدنا، دون ان ننسى تلك الفتوى الّتي كانت طعنة في كبد مساجدنا ممّا منع بعض روّاد المساجد أيضًا من الحضور بدعوى عدم جواز الصّلاة بالتّباعد، فتداعت كلُّ هذه الأسباب وغيرها على روّاد المساجد كما تتداعى الأكلة على قصعتها، لتصبحَ المساجد خاوية على عروشها إلَّا ممَّن ثبَّتهم الله، في صورة أشبه ما تكون بالمتاحف الّتي تزار في المناسبات حتّى لا نشبّهها بالكنائس الّتي لن تُشابهها مهما ساءت الأمور.فإلى متى يستمرُّ غلقها - وإن كانت مفتوحة - بالكمامة الّتي تكاد تصبح من واجبات الصَّلاة، وهي الّتي ينزعها الجميع بمجرَّد الخروج من المساجد!! وإلى متى يستمرُّ غلقها بالتّباعد الّذي لا يراعى في تجمّعاتنا العائليّة والمهنيّة والرِّياضيّة والاجتماعيّة، ولا في تنقّلاتنا، فإذا دخلنا المسجد تباعدنا بعد أن كنَّا متلاصقين متزاحمين في كلِّ شيء! وإلى متى يستمرُّ غلقها بتعليق الدّروس العلميّة والمواعظ وحلقات التّعليم القرآنيّ، في الوقت الّذي أمّتنا في أشدِّ الحاجة إلى هذا المتنّفس؟ وإلى متى يستمرُّ غلقها بغلق بيوت الوضوء، ممّا ألجأ كثيرين إلى الاستنجاد بأصحاب المقاهي، وقارورات المياه المعدنيّة؟أليس استمرار هذا الغلق لمساجدنا سيحوّلها إلى متاحفَ تُزار بين الفنية والأخرى؟! ومن فئة دون أخرى في كلّ مرّة؟! فمن ذا الّذي يرضى أن تتحوَّل مساجدنا إلى متاحف كما يُريدها أعداء الدِّين، وخصوم الإسلام الّذين سعوا من أمد بعيد لنقض عرى الإسلام عروة عروة في غفلة من المسلمين وضعفهم، فنقضت الخلافة الإسلاميّة، ثمّ الوحدة الإسلاميّة الجامعة، ولن يألوا جهدًا في نقض عروة الصَّلاة، أبطل الله كيدهم.فأوقفوا غلق المساجد بتحيين البروتوكول الصِّحيّ بما يتلاءم مع مستجدات الوضع الصِّحيّ، وأوقفوا غلقها بفتح بيوت الوضوء، والإذن بعودة الدّروس العلميّة والوعظيّة، ولتستأنف حلقات التّعليم القرآنيّ في المساجد، وفي المدارس القرآنيّة، وأوقفوا فتاوى الأفراد باعتماد هيئات الإفتاء الرَّسميّة ذات المصداقيّة، الّتي لا تختصُّ بفتاوى كورونا فحسب.ثمّ بعد ذلك نتساءل: هل تملك الوزارة الوصيّة رؤية مستقبليّة واضحة لتجنّب تحوَّل المساجد إلى متاحف؟ ومهما كانت الإجابة فإنَّ ما ينتظر الأئمَّة من عمل جبّار وجهاد عظيم؛ لإرجاع روَّاد المساجد المنسحبين، يتطلّب منهم وصل اللَّيل بالنّهار من أجل أن يعودوا بمساجدنا إلى سابق عهدها قبل غلقها، ثمّ لينطلقوا بها لاستعادة معالي مجدها يوم كانت مقرّا للخلافة، والبتّ في القرارات الحاسمة، ودارًا للقضاء والحكم بين النّاس بالعدل، وعقدِ أولوية الجهاد، وحلقِ العلم بمختلف اختصاصاته، وملجأً للفقراء والأرامل والأيتام. سدَّد الله سادتنا الأئمّة، ووفّقهم لأداء هذه الوظيفة العظيمة.*رئيس المجلس الوطني المستقل للأئمة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات