38serv

+ -

حين تتحدث للناس عامة والشباب منهم خاصة حول الناجحين، وبالخصوص في المسار العلمي والوظائف العلمية البحثية، تجدهم مجمعين أو يكادون على أن هؤلاء الناجحين هم أساسا (العقول المهاجرة) إلى البلاد الغربية، التي تبوأت فيها مكانة مشهودة في المجال الأكاديمي العلمي البحثي أو تولت مناصب سامية في مؤسسات معرفية واقتصادية مرموقة. وهذه حقيقة لا تنكر، لكنها ليست كل الحقيقة، فليس هؤلاء هم فقط النّاجحون، بل هذا تنميط للنجاح وتضييق لفضائه الأرحب، أربك وشوّش أجيالا من الشّباب والشّابات في بلادنا وفي البلاد التي تشبهها في أحوالها وأوضاعها وأحبطهم وخيّب آمالهم وحوّلهم إلى (طاقات معطّلة)، تحلم بالهجرة ولو بطرق غير شرعية ولو بطرق انتحارية، ولا تستطيع أن تحلم بالنّجاح أو بغيره خارج إطار الهجرة الضّيق جدا، مع يقينهم أن الضّفة الأخرى ليست جنات عدن، بل بلاد أرضية لها إيجابياتها الكثيرة، ولها سلبياتها الكثيرة، وتحدياتها الكبيرة أيضا.بيد أن اليقين عند الإنسان غالبا ما ينهزم أمام الوهم، فللوهم سطوة على نفوس وعقول البشر غريبة عجيبة، تجعلهم يخوضون التجارب والمعامع مع تيقّنهم من الهلاك أو الخسران، وصدق الإمام العارفُ ابنُ عطاء الله السّكندريُّ رحمه الله حيث يقول في حِكمه الشّهيرة: ما قادك شيء مثل الوهم.إن الهجرة أينما كانت وجهتها، ومهما كانت مسوّغاتها، ومهما كانت نتائجها، فهي ثقيلة على النّفس الإنسانية؛ لِما فيها من بعد عن البلدان، ومفارقة الخلان، وترك للأهل والإخوان؛ ولذلك فالغالب أن لا تكون إلاّ جبرًا أو كرهًا؛ ولثقل الهجرة على الإنسان فطرةً وكرهه لها جِبلَّةً تعجّب سيّدُنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال له ورقة بنُ نوفل رحمه الله: يا ليتني فيها جذعًا أكون حيّا حين يخرجك قومك، فقال عليه السّلام: “أَوَ مُخرجيَّ هُم؟!” رواه البخاري. وتألّم، فداه أبي وأمي، أيضا حين اضطر للهجرة، فقال هو ينظرُ مكّةَ مودعا: “إنّي لأخرج منك وإنّي لأعلم أنّك أحبّ بلاد الله إليه، وأكرمه على الله، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك”، رواه أحمد وغيره.ونفهم من هذا أيضا لما اتخذ الجبابرة والظلمة والمستبدّون التّهجيرَ الفردي (النّفي) والتّهجير الجماعي مسلكًا من مسالك تعذيب الأفراد والمجتمعات وتنغيص معيشتهم، فالتّسبب في هجرة النّاس فرادى وجماعات هي جريمة، تنتج عنها أضرار خطيرة معنوية وحسية للمُهجّرين لا يعلمها إلّا، لا جرم أن قرن اللهُ جلّ شأنه بينها وبين جريمة القتل والسّجن بغير وجه حقّ، قال جلّت حكمته: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، غير أنّ ما يجب أنْ لا يخفى علينا أنّ ثمّةَ ضربين من التّهجير: التّهجير المباشر العنيف، وهو الظاّهر المعروف. والتّهجير غير المباشر النّاعم، وهو التهجير الخفيّ الّذي يغفل عنه بعض النّاس، مع خطورته، وآثاره المؤلمة الّتي تقع يوميّا، هذا التّهجير هو الّذي يتسبّب فيه من أنتجوا الأوضاع المزرية الّتي تعيشها بلدان (العالم الثالث) كما يقولون، ومن يسهرون على طول عمر هذه الأوضاع واشتدادها، من الفاسدين والمفسدين، ومن الفاشلين من المسيرين والمسؤولين.نعم إنّ العقول من ذوي الكفاءة وغير العقول من النّاس العاديين لا يهجرون بلدانهم حبًّا في الهجرة ولا حبًّا في بلاد الغير، ولكن اضطرّوا إلى ذلك اضطرارًا، هربًا من أحوال بلدانهم الّتي ضيّقت عليهم الأرض على رحابتها، وحجبت عنهم السّماء على وَسَاعتها. ولو وجدوا في بلدانهم ما يَصْبُون إليه لَما تحمّلوا وعثاء الهجرة ومشاق البِعاد، وقد رُويّ عن عليّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “أربعٌ من سعادة المَرء: أن تكون زوجتُه موافقةً، وأولادُه أبرارًا، وإخوانُه صالحين، وأن يكون رزقُه في بلده” رواه ابن عساكر وغيره.إنّ الكلام حول هذا الموضوع طويل الذّيول، كثير الفصول، وحتّى لا أهمل شطرًا من العنوان، فإنّي أقول: إنّ كثيرًا من (العقول المهاجرة) قد نجحت حيث حلّت واستقرّت، ومع أهمية ما حقّقوه فإنّ مواتاة الظّروف تسهّل ذلك النّجاح وتيسّره، إلّا أنّ ما لا يقدّره أكثر النّاس، هو تلك (العقول المصابرة) من ذوي الكفاءة العالية، الّذين لم يختاروا الهجرة مسلكًا أو لم تتيسّر لهم، فبقوا في بلدانهم رضًا وقناعة أو كرهًا واستسلامًا للواقع، يصابرون إكراهات شديدة، ويغالبون ظروفًا معاكسة قاهرة، ويحقّقون نجاحات في بيئة غير ملائمة ولا محفزّة ولا مشجّعة. وهذا هو النّجاح الحقيقيّ المبهر!، نجاح مع قلّة الإمكانات أو انعدامها، وكثرة العوائق وثقلها. إنّه النّجاح الصّعب، والنّجاح الغالي جدًّا، الّذي يدفع فيه أصحابه مُهجهم ونفوسهم، ويصابرون ويجالدون ويجاهدون ويضحّون تضحية متكرّرة من أجلّ تحقيق شيء ينفعهم وينفع أهلهم ومجتمعهم! ويزيد وضعهم شدّة وحملهم ثقلًا عدم تقدير النّاس لنجاحاتهم، وانبهارهم وتغنّيهم بتلك النّجاحات الّتي تحققّها (العقول المهاجرة) وراء البحار.وهكذا حالنا للأسف الشّديد؛ ننبهر لكلّ ما يأتينا من هنالك، ونغفل عمّا هنا قريب منّا. إنّ نجاح (العقول المهاجرة) هو نجاح نحترمه ونقدّره، ولكن لا ننسى أنّه نجاح توفرّت له ظروف محفّزة وبيئة مساعدة، وإنّ نجاح (العقول المصابرة) نجاح هو الأحقّ بالاحترام والتّقدير والتّنويه؛ لكونه نجاحًا خارجًا من قلب المعاناة، معاندًا للظروف مغالبًا للظروف المثبّطة للبيئة غير المساعدة! ومن المهم أن نتذكّر أنّ نجاح (العقول المهاجرة) يغذّي في الأجيال حلم الهجرة، ونجاح (العقول المصابرة) يحيي فيهم الأمل!*إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات