المولد النبوي الشريف بين الجدل والفشل!

+ -

لقد صارت المواسمُ الدّينيّة ساحاتِ معارك جدالية لا تنتهي، ومناسباتٍ لإظهار الشِّقاق والاختلاف بيننا وتوسيعه، فانقلب ما من شأنه جمعنا وتوحيدنا إلى ما يفرّقنا ويشتّتنا! وقد تكلّمت عن هذه الحيثية في مرّات سابقة وسأتكلّم عنها في فرص لاحقة إن شاء الله. كما أنّي سبق لي أن أشرتُ إلى ما اصطلحت عليه بالفتاوى الحَوْلِيّة والفتاوى المُزْمِنة!فالفتاوى الحَولية نسبة إلى الحول، أي العام / السنة الّتي تحول، بمعنى تدور، تبتدئ حين تنتهي.. وهكذا دواليك، والمقصود بها الفتاوى الّتي يتكرّر الكلام والجدال والمِراء والسّؤال حولها في مناسبات تتكرّر في أوقات محدّدة من العام: زكاة الفطر في رمضان، صيام عاشوراء أو عرفة إذا وقع يوم السبت، المولد النّبويّ الشّريف... الخ. وكلّ عام يكون التّوضيح والبيان، والنّقاش والجدال، والخلاف لم يرتفع، والوفاق لم يحدث، والجدال لم ينقطع!!وأمّا الفتاوى المزمنة، فتشبيهًا لها بالأمراض المزمنة، الّتي لم يجد لها الطبّ علاجًا حتّى الآن - اسأل الله الصّحة والعافية للجميع - وهذه الفتاوى لم يقطع الفقهاء القول فيها إلى الآن، وكلّما زاد بيان حكمها وتوضيحه، ازداد الخلاف فيها والاشتباه: سُنّة درس يوم الجمعة، صلاة تحيّة المسجد أثناء خطبة الجمعة، سُنّة صلاة التّراويح عشرين ركعة... الخ، فمهما كان الخوض فيها وزيادة البيان فإنّ الجدال لا ينتهي، والخلاف لم يرتفع، والوفاق لم يحدث، والجدال لم ينقطع!! وغنيٌّ عن البيان أنّ عامة النّاس لا يعلمون مناهج العلماء في الاستدلال والاستنباط ولا يعرفون قواعد العربية وقواعد أصول الفقه وقواعد الفقه ومقاصده، ولا يفرقون بين صحيح الحديث وضعيفه، ولا يفرّقون بين سلامة الاستدلال واختلاله... وهذا يعني أنّ تمسّك الغالبية برأي في مثل هذه القضايا لا علاقة له بالدّليل والرّاجح، وإنّما هو تقليد محضّ لمَن يعتقد أنّه يمثّل السُّنّة والصّواب من العلماء! أي هو تقليد محضّ وإن رفع شعار اتّباع الدّليل! ولذلك فالغالبية الغالبة ينظرون ماذا قال الشّيخ الفلانيّ بالتّحديد، أو ما قاله علماء هذا التيار المعيّن بالتّحديد، وذلك هو الحقّ والصّواب والسُّنّة! ومستحيل أن يكون الأمر على غير ذلك! وهذا هو التّعصّب المقيت بالشّعارات البرّاقة!إنّنا مهما اختلفنا فلن نختلف في أنّ الجدال حول كلّ القضايا وخاصة القضايا الدّينية الشّرعية صار شائعًا فينا، بل صار وصفًا ملازمًا لنا، وتجرّأ عامة النّاس جُرأة عجيبة على الكلام في دين الله تعالى بجهل كبير وعقول صغيرة وتعصّب مكين! ولن نختلف أيضًا أنّ شيوع الجدال وكثرته معصيةٌ لله تعالى، وتنكّبٌ لهدي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومخالفة ظاهرة لسُنّته، ومظهرٌ من مظاهر التّخلّف! فالله تبارك وتعالى ما ذكر الجدل في كتابه إلّا ذمّه، اللّهمّ إلّا ما كان مع الكفار لبيان بطلان عقائدهم وفضح ضلالهم وإقامة الحجّة عليهم عسى ولعلّ يكون ذلك سببًا لاهتدائهم، كقوله الله جلّت حكمته: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن}، {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن}، أمّا غير ذلك فهو الذّم والتّنفير منه: {وكانَ الاِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا}، {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}، والحقّ أنّ شيوع الجدال في قوم هو دليل ضلال وانحراف، وليس هذا رأيي، بل هو قول الصّادق المصدوق عليه أزكى الصّلاة والتّسليم، عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ضلّ قومٌ بعد هدى كانوا عليه إلّا أوتوا الجدل»، ثمّ تلا هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}، رواه أحمد.ومن هنا نعرف مدى الانحراف الّذي نعيشه، ومدى الاختلال الّذي أصابنا. وإنّني أرى أنّ المتجادلين في قضايا فرعية أو في ما لا علم لهم به أو فيما لا يجوز لهم الكلام فيه أصلًا وتضييعهم أوقاتهم وطاقاتهم في ذلك، مع شغل أنفسهم وشغل غيرهم عن الاهتمام بما هو أولى وأوجب يدخلون في عموم قول الله جلّت صفاته: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.إنّ الغرق في الجدل حول الاحتفال بميلاد سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم هو هروب من المعركة الحقيقية! هروب من ميدان العمل الواجب! هروب من مواجهة الفشل المريع الّذي وصل إليه جميع المتجادلين! بغضّ النّظر عن مواقفهم وآرائهم! فلا يكابر أحدٌ أنّه قد نشأت أجيال من المسلمين والمسلمات، وخاصة الشّباب والشّابات والفتيان والفتيات هم أبعد ما يكونون عن الاقتداء والاهتداء بسيّدنا رسول الله عليه السّلام، وأنّى لهم ذلك وهم لا يعرفونه! ولا يعرفون سيرته! ولا يعرفون سنّته! وعلاقتهم به هي مثل خيطٍ رفيع رقيق جدًّا! شيء من الثقافة الشعبية، وشيء من الفلكلور، وشيء من تراث الأجداد،  وشيء من المعلومات العامة والثقافة العامة.. وفقط. وحتّى حين يأوون إلى المساجد ويرغبون في سلوك طريق التّدين الصّراط المستقيم تواجههم أمواج عاتية من الجدالات والاختلافات والابتداعفوبيا... أمّا قدوتهم فهي نجوم كرة القدم، ونجوم الفن، ونجوم اليوتيوب... والمصيبة الكبرى مع الشّابات والفتيات وأكثرهنّ لا يعرفن إلّا المغنيات والممثلات وعارضات الأزياء... أمّا التّربية على الإسلام!، أمّا الثقافة الدّينية!، أمّا الالتزام بأحكام الشّرع! أمّا الاقتداء بهدي النّبيّ الكريم عليه الصّلاة والسّلام فوا إسلاماه!!إنّ المعركة الحقيقية الكبرى هي معركة تصحيح (البوصلة) لهذه الأكوام من الشّباب والشّابات والفتيان والفتيات، وضبطها على الاقتداء والاهتداء بسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}، ومهما انتصرنا لآرائنا في قضايا صغرى أو كبرى ولم ننتصر في معركة الاقتداء، فإنّنا نكون نعيش في أوهام ليس إلّا. أقنع كم شئت من الشّباب والشّابات برأيك في مسألة أو مسائل جزئية! وأقنع كم شئت منهم ومنهنّ بأنّ تيّارك أو جماعتك هي (الفرقة النّاجية)! وأقنع كم شئت منهم ومنهنّ بأنّ شيخك أو شيوخك هم أعلم العلماء وغير ذلك من الدّعاوى العريضة..! كلّ هذا لا يغيّر من الحقيقة شيئًا!، أنّنا فشلنا جميعنا فشلًا كبيرًا في تربية هذه الأجيال على الاقتداء بسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والعيش بالقرآن العظيم إلاّ قليلًا قليلًا! فلو نتواضع للحقّ والشّرع والعلم ونراجع أولوياتنا ونوجه جهودنا إلى ما ينفع النّاس ويرضي ربّ النّاس سبحانه فهذا خير وأولى وأوجب من الإصرار على غيّ الجدال!*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات