الإصلاح الواجب وهدر الجهود والطّاقات

38serv

+ -

 هما معسكران في الحياة ينخرط النّاس فيهما، معسكر الإصلاح ومعسكر الفساد، وعدم الانخراط في أحدهما يجعلك محسوبًا على الآخر ضرورةً، فالإنسان لا يخلو من سعي في إصلاح أو سعي في فساد، وهذا ما يشير إليه قول الله جلّ جلاله: {وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}، فالآية تقرّر أنّ الوضع لا يخلو عن حالين: إمّا إصلاح أو إتباعٌ لسبيل المفسدين، ويؤكّد القرآن هذا المعنى الجليل في آية أخرى فيقول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُون}.وقد يكون حظّ إنسانٍ من الإصلاح مجرّد عدم المشاركة في الفساد لا غير كما تلمح إلى ذلك الآيات الكريمات. وفي الحديث الشّريف: «تُمسك عن الشّرّ فإنّه صدقة تصدّق بها على نفسك» رواه أحمد. وفي رواية ابن حبّان لهذا الحديث قال صلّى الله عليه وسلّم: «تكفّ شرّك عن النّاس فإنّه صدقةٌ منك على نفسك». وقال قال أبو ذر: قلتُ: يا رسول الله ماذا ينجي العبد من النّار؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بالله»، قلت: يا نبيّ الله، إنّ مع الإيمان عمل، قال: «يرضخ ممّا رزقه الله». قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان فقيرًا، لا يجد ما يرضخ به؟ قال: «يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر». قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان عَيِيًّا لا يستطيع أن يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر؟، قال: «يصنع لأخرق». قلت: أرأيت إن كان أخرق لا يستطيع أن يصنع شيئًا؟ قال: «يُعين مغلوبًا». قلت: أرأيت إن كان ضعيفًا، لا يستطيع أن يعين مظلومًا؟ فقال: «ما تريد أن تترك في صاحبك، من خير تمسك الأذى عن النّاس»، فقلت: يا رسول الله إذا فعل ذلك دخل الجنّة؟ قال: «ما من مسلم يفعل خصلة من هؤلاء، إلّا أخذت بيده حتّى تُدخله الجنّة» رواه الطبراني وغيره، وهو صريح في أنّ الإنسان الّذي لا ينتظر منه خير ولا مشاركة في إصلاح يكفيه أن يمسك شرّه وأذاه عن خلق الله، وعلى رأس ذلك أن لا يكون ظهيرًا للمفسدين ولا شريكًا لهم بأيّ وجه.لكن يبقى مقام المشاركة في الإصلاح أفضل وأسمى وأولى؛ ولهذا كان أمنية العاقلين ودعاؤهم أن يوفّقهم الله تعالى للعمل الصّالح: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا حَمَلَتْهُ أُمّهُ كَرْهًا وَوَضَعَتْهُ كَرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ اَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ اَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ..}.والإنسان مهما بذل في سبيل الإصلاح، ومهما اجتهد في ذلك وضحّى فهو على خير، فإنّ الله سبحانه وتعالى ضمن الأجر للمصلحين إذا استوفى عملهم شروط القَبول المعروفة، فقال عزّ شأنه: {وَالّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِين}. وهو سبحانه وتعالى لم يكلّفنا بالإصلاح الكامل الّذي لا نقص فيه، والّذي يُحقّق أقصى الغايات منه، وإنّما كلّفنا أن نكون من المصلحين ومعهم، وأن نساهم في الإصلاح بالمستطاع: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب}. وهذه الآية العظيمة زيادة على معانيها الواضحة البيّنة تومئ إلى معنيين جليلين: الأوّل: أنّ الإصلاح يتحقّق بالتّدريج كما يفيده التّأكيد على {الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}. والثاني: أنّ تحقيق النتائج منوط بالتّوفيق الرّبانيّ. فليس كلّ مَن حمل شعار الإصلاح، أو سار في طريقه أو عمل وبذل في سبيله يوفّقه الله تعالى ويجري الخير على يديه، بل من وفّقه الله ويسّر أمره وبارك جهده هو الّذي يحقّق المقصود ويجسّد الآمال.ثمّ إنّ خذلان الله تعالى -عياذًا بالله من ذلك- لبعض الحاملين لشعار الإصلاح والعاملين في ساحاته قد يكون عائدًا لانعدام إخلاصهم أو اختلاله، وهذا من الغيب الّذي حُجب عنّا، فلا يعلم ما في القلوب إلّا الله سبحانه، وعليه لا يحقّ لامرئ أن يتّهم غيره في نيته وفساد طويته. وقد يكون الخطأ في العمل، بأن يكون غير مناسب للظروف أو غير مكافئ للتّحدي أو غير مخطّط له جيّدًا أو الوسائل المستخدمة فيه قاصرة أو القائم به غير مؤهّل له كفاية أو غير ذلك من صور القصور وأوجه الضّعف.وهذا يستوجب على الحالمين بالإصلاح العاملين له أن يراجعوا أنفسهم ونياتهم مع ربّهم أوّلًا؛ لأنّ الإخلاص والصّدق أساس النُّجح، ورحم الله العلامة السّوريّ مصطفى السّباعيّ رحمه الله إذ يقول: “الرّعد الّذي لا ماء معه لا ينبت العشب، كذلك العمل الّذي لا إخلاص فيه لا يثمر الخير”، وكثير من أعمال محترفي الإصلاح رعود لها أصوات مجلجلة لا تأتي بشيء للأسف الشّديد. ثمّ أن يراجعوا أعمالهم مراجعة دقيقة في كلّ وجوهه، وخاصة ما تعلّق منها بالعامل البشريّ؛ لكونه العاملَ الحاسم في كلّ المجالات والأعمال. ولا يكون ذلك إلّا إذا تقبّلوا نقد النّاقدين مهما كان شكله ودوافعه، وانفتحوا على كلّ الاقتراحات والأفكار مهما كان الوعاء الّذي صدرت عنه، ويتحمّلوا المسؤولية كاملة بشجاعة صادقة، ولو وصل الأمر أن يعلن بعض متصدري مؤسسات الإصلاح وواجهاته انسحابهم وتراجعهم للخلف، فتحًا للمجال لمَن هو أكفأ منهم وأقدر على إنجاح عملية الإصلاح وتحقيق أهدافها، فقد يكون وجودهم في تلك المواقع والمناصب هو المفشل للإصلاح من حيث لم يدروا!.إنّ العقل السّليم يقضي أنّه إذا رأينا دعاة التّغيير والإصلاح يبذلون جهودًا كبيرة ولا يحقّقون نتائج كبيرة أو لا يحقّقون شيئًا أصلًا، فلا بدّ أن يكون ثمّت خطبٌ ما وخلل جلل!. واستحكام هوى النّفوس (يبرّر) ويسوّغ الوضع ويبحث عن الأعذار ويكثر من التّحليلات ويحمّل الآخر المسؤولية دائمًا، ولا يقبل أبدًا أن يوجّه إلى نفسه السّؤال: ربّما أنا السّبب؟ (ربّما نحن السّبب بالنسبة للجماعات والمنظمات والأحزاب). رغم أنّ القرآن العظيم واضح في هذه الحيثية: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم}. وعدم الخضوع لهذا المنطق القرآني وعدم مراجعة النّفس والمسار هو السّبب في هدر جهود عظيمة وهدر طاقات كبيرة، وهو السّبب في استعلاء الفساد تمكنّه، وهو السّبب في انشغال الصّالحين في معارك وهمية وقضايا جانبية، وهو السّبب الّذي جعل كثير من الصّادقين يصدق عليهم أنّهم جند الله في المعركة الخطأ!.إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات