+ -

ها قد انسلخ رمضان كما عبّر عن ذلك سيّد الخلق عليه الصّلاة والسّلام، فعند الترمذي: “رَغِمَ أنف رجل ذُكِرتُ عنده فلم يُصَلّ عليّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثمّ انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنّة”.لقد رحل رمضان المعظّم الّذي شرّفه الله تعالى وعظّمه ورفع قدره، وكرّمه بالصّيام والقيام وتلاوة القرآن والخشوع والتّضرّع إلى الله عزّ وجلّ، والإقبال عليه، ونزول الرّحمة فيه علينا منه سبحانه. رحل رمضان والنّاس في ذلك صنفان: منهم الرّابح ومنهم الخاسر، منهم مَن اغتنم أيّامه ولياليه، ومنهم مَن قصّر وأسرف. وإنّ من تمام شكر العبد لله لمولاه أن يجعل من شهر رمضان حياة جديدة ملؤها الطّاعة، والمعاملة الصّادقة الصّالحة مع الله، فاستأنَف عمله وداوم عليه ليفوز بجنّة الرّضوان.فكم تعذّر متعذّر عن العمل الصّالح قبل رمضان، فجاء رمضان ليزيل عنه هذا اللّبس، ويرفع عنه تلك الغشاوة، ليُصبح في رمضان عبدًا صالحًا يتقرّب إلى الله بالطّاعات، يصوم مع الصّائمين، ويقوم مع القائمين، بل ويعتكف مع المعتكفين، ليزداد إيمانًا وصلاحًا: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، سُئِلت أمّنا عائشة رضي الله عنها عن أحبّ الأعمال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: “أدومها”، ومن حبّه صلى الله عليه وسلم للمداومة كان إذا فاته وِرْدُه من اللّيل قضاه في الصّباح، وما ذاك إلّا دليل على حبّه للعمل وحرصه على المداومة.وفي التّنزيل: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}، فإذا كانت هذه وصية الله للأنبياء، فنحن من باب أولى، وهي ليست وصية بل أمرٌ وصّى بها خير أنبيائه. وقد خطب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يوم فطر فقال: “أيّها النّاس: إنّكم صُمتم لله ثلاثين يومًا، وقُمتم ثلاثين ليلة، وخرجتُم اليوم تطلبون من الله أن يتقبّل منكم”.ومن علامات القَبول أن يكون حال العبد بعد الصّيام أفضل من حاله قبل رمضان. فلنحمد الله على بلوغ اختتامه، ولنسأله قبول صيامنا وقيامنا.واعلم أيّها الفاضل أنّك قد لا تدرك رمضان آخر، فالموت خطّاف ولا يستأذن أحدًا، فما عليك إلّا أن تودّع رمضان بالتّوبة النّصوح من جميع الذّنوب والآثام، والعزم على أن يكون حالك بعد رمضان أفضل من حالك قبله، فقد خابَ وخسر مَن عرف ربّه في رمضان وجهله فيما سواه من الشّهور، فهذا لا ريب عبد سوء، وأن يغلب عليك الخوف والحذر من عدم قَبول العمل، روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: “كونوا لقبول العمل أشدّ اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عزّ وجلّ يقول: {إنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}”.فيا صاحب الهمّة العالية، ويا من قد تفضّل عليه ربّه بإتمام صوم رمضان، وأسبغ عليه العفو والغفران، وكتب له العتق من النّيران، واصل الإحسان بالإحسان، واتّق ربّك، فإنّ من تقواه المداومة على عمل البرّ والإحسان، واعزم عقد النية على التزام المسلك الرّاشد الّذي كنت عليه في رمضان، تالله إنّه لمن المؤسف انهزام تلك الصّفوف الّتي اكتظّت بالنّاس، ثمّ هم بعد رمضان انتكسوا وتركوا الصّفوف شاكية باكية على مرتاديها. قال الحسن البصري رحمه الله: إنّ الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، ثمّ قرأ قول الحقّ تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، وقيل لبعض العارفين: إنّ قومًا يتعبّدون ويتهجّدون في رمضان، ثمّ إذا خرج رمضان تركوا ذلك، فقال: بئس القوم! لا يعرفون لله حقًّا إلّا في رمضان. فاللّهمّ كما بلّغتنا شهر الصّيام، فاجعل عامه علينا من أبرك الأعوام، وأيّامه من أسعد الأيّام، وتقبّل منّا ما قدّمناه فيه من الصّيام والقيام، واغفر لنا ما اقترفنا فيه من الآثام، واعتق رقابنا من النّار يا أرحم الرّاحمين. والله وليّ التّوفيق.

*إمام مسجد عمر بن الخطّاب،شبن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات