+ -

معلوم للجميع أنّ المساجد في الجزائر غالبًا ما تُبنَى بتبرّعات المواطنين، فالدّولة لا تتولّى بناء المساجد، ولا تُسهم في هذا السّبيل، اللّهم إلّا توفير الأراضي المخصّصة لذلك، وبعض المساجد الوطنية الكبرى المعدودة، وبعض الهبات من السلطات المحلية لبعض المساجد، وكلّ المساجد بعد ذلك لم تبنَ إلّا من جيوب المواطنين حبّا ورَغَبًا، وإيمانًا وطاعة، رغم أنّ المسجد مرفق عموميّ، ويقدّم خدمات جليلة للمجتمع، إضافة إلى إقامة العبادات والشّعائر. فمن حقّه أن يُموّل من الخزينة العمومية مثله مثل باقي المرافق العمومية، ولكن لا بأس لن يبخل الجزائريون على بيوت الله أبدًا، مهما كانت ظروفهم المعيشية وأحوالهم الاقتصادية.بيد أنّ ممّا يجب تسجيلُه والتّنبيهُ عليه تقصيرَ وزارة السّكن والسّلطات المحلية في تخطيطهم للمدن، والأحياء الجديدة، حيث يهملون مكان المسجد من مخطط المشروع، ولا يُهتم بذلك بتاتًا، حتّى تُسكن الأحياء الجديدة، فيضطرّ قاطنوها للبحث عن مكان يصلح لبناء المسجد، فلا يحصلون عليه غالبًا إلّا بعد اللُّتيا والّتي، وكثيرًا ما يكون المكان غير مناسب من حيث موقعُه بالنّسبة للعمارات والمساكن وسهولة الوصول إليه، فأولى بوزارة السّكن والسلطات المحلية الاهتمام بهذا الأمر، وإضافة بند في دفاتر شروط بناء الأحياء الجديدة، يوجب تحديد مساحة لبناء المسجد في مخطط الحيّ، هذا كلّ المطلوب، ولا تهتمّوا بعد ذلك سيبني الجزائريون مئات المساجد بل آلافها طيبةً نفوسهم بذلك، فرحين مسرورين.وبعد بيان هذا وهو بيّن معروف، فإنّي لا ينقطع عجبي من اللّغط الكبير الّذي أُثير ولمَّا يهدأ إلى الآن حول جامع الجزائر! والبكاء على الأموال الّتي صُرفت في تشييده! وكأنّ الدّولة الجزائرية ارتكبت موبقة بعملها الرّائع هذا؟! ولا أدري هل الخبث أو الحقد أو الجهل هو الدّافع لذلك؟ أم هي مواقف سياسية تصفيةً للحساب مع النّظام؟ أم هي مجرّد آراء ومواقف بريئة؟. أليس يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ أُوْلَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن..} بمعنى لا أحد أظلم ممّن يقف هذا الموقف، وإنّما كانوا أظلم النّاس؛ لأنّهم أتوا بظلم عجيب، فقد ظلموا غيرهم اتّهامًا ومَنعًا لهم في حقّهم في بناء مسجد وهو حقّ مشروع بلا ريب، وظلموا أنفسهم بسوء السّمعة بين النّاس. فإنّ من أعجب العجب وأقبح العيب أن ينزعج امرئٌ من بناء مسجد؟ ولا يقولنّ قائل: إنّ الآية نزلت في الكافرين! فيقال: وهل يرضى مسلم أن يتشبّه بالكافرين في هذا الأمر المشين؟!إنّه ليس كثيرًا على المساجد أن تتولّى الدّولة بناءها، فهي مرفق عموميّ كما سبق؛ ولأنّ الله تعالى يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَواةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَواةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَار}، ورفعها بناؤها وعمارتها وتطهيرها وتعظيمها، والدّولة كما ذكرنا لا تبني مساجد الأحياء، فليس كثيرًا أن تبني مسجدًا وطنيًا هو في الحقيقة ليس مسجدًا وحسب، بل هو معلم وطنيّ، ومركز إشعاع حضاريّ بمرافقه كلّها، نعم ليس كثيرًا أن يقتطع من ميزانية الجزائر (وهي دولة أغناها الله بفضله زادها الله غنى وبركة) مبلغًا يسيرًا لرفع مسجد جامع، ينتصب شامخًا منارَ هداية، ومعلمَ حضارة، ودارًا للقرآن والإسلام.إنّ أكبر وأكثر شبهة أثيرت حول جامع الجزائر، تلك المغالطة المكشوفة: من المفروض أن تبني بميزانيته مستشفيات؟! وأختها: من المفروض أن تصرف ميزانيته لتحسين مستوى المعيشة؟! وأخواتها الأخريات...!! ومع احترامي لمَن قالها ولمَن ردّدها، فهذا الكلام لا يهرف به إلّا حاقد أو أحمق!!! كان يكفيه أن يسأل: وكيف كان الحال قبل انطلاق مشروع جامع الجزائر؟ هل بنيت مستشفيات بالقدر الكافي والنّوعية المطلوبة؟ وهل كان مستوى المعيشة جيّدًا، ثمّ جاء جامع الجزائر، فتوقّف بناء المستشفيات وساءت ظروف المعيشة؟! ثمّ كم تساوي ميزانية جامع الجزائر أمام الأرقام الفلكية للأموال المنهوبة الّتي سمعناها في محاكمات بعض (أقول: بعض!) الفاسدين؟! وكم تساوي ميزانيته أمام الميزانيات الضّخمة الّتي تصرف على أندية كرة القدم في الرابطة المحترفة ذات المستوى الضعيف جدًّا؟! وكم تساوي ميزانيته أمام الميزانيات الضّخمة الّتي تصرف على بناء الملاعب؟! بل أمام الميزانية الّتي صرفت وتصرف على أرضية ملعب 5 جويلية فقط بلا فائدة؟! وكم تساوي ميزانيته أمام الميزانيات الّتي تصرف على الحفلات وعلى الفنانين والفنانات، الّذين يفتقد أكثرهم للموهبة والإمكانات الفنية، ولكن يُغدق عليهم بما لم يغدق على الحاج العنقى وحسن الحسني (بوبڤرة) رحمهما الله تعالى.إنّ الحياء والعقل بعد الشّرع يوجبان على من انخدع بهذه المقولات المغرضة أن يهتمّ أكثر بمحاربة الفساد، سواء الفساد الظّاهر من نهب للمال العام واستغلال للمنصب وفساد الصّفقات، أو الفساد المبطن من صرف للأموال الكبيرة بطريقة قانونية في أمور تافهة ليس وراءها عائدة. أو الفساد المزيّن من صرف أموال بسخاء على بعض القطاعات الّتي لا تنتج ثروة، مع الحملات الإعلامية المكثّفة الّتي تزين الأمر في عيون النّاس وتصوّره في صورة الواجب الوطني! هذا ما يجب الاهتمام به والنّضال من أجله، أمّا ميزانية جامع الجزائر فبالغًا ما بلغت فهي جزء يسير من ثروة الجزائر العظمى، وهي شيء صغير في حقّ بيت الله العظيم!إنّ الّذي حملني على رقم هذه الكلمات هو مقال لكاتب جزائري نشره في صحيفة “القدس العربي” الالكترونية، يتحرّش فيه بالجزائر ويثير الشّبهات حول جامعها الأعظم، مع كشكول من الأفكار السّخيفة المضحكة، وترديد ببغائي لأفكار المستشرقين والحداثيين، فقلت: سبحان الله لم تكفهم الحملات الدّاخلية على جامع الجزائر حتّى ضمّوا إليها حملات خارجية!. حقّا ما نقموا منّا إلّا بناء المساجد! [ما نقموا أي: ما عابوا علينا، وما كرهوا منّا، وما أنكروا علينا ذنبًا ولا عيبًا إلّا بناء المساجد!]. فليس في الجزائر مشكل إلّا بناء جامعها! ولو لم يبنَ لحلّت كلّ مشاكلها بميزانيته! هذا ما يقوله المغرضون، ويصدّقه... وسلام على العقل والعدل.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات