38serv

+ -

إنّ الحرب بين الحقّ والباطل أبدية، والمعارك بين الحقّ والباطل دائمة، تشتدّ في مراحل ومواطن، وتخفّ في أخرى. تُسفِر عن وجهها مرّات وتتدثّر بدعايات وأهداف غير مباشرة مرّات أخرى ولكنّها مستمرّة، يعلو فيها الحقّ ويغلب في فترات، وينتصر الباطل مؤقّتًا في فترات أخرى، والعاقبة دائمًا بلا ريب ولا شكّ للحقّ.والمؤكد أنّ الله جلّت حكمته ابتلى عباده بهذه المعركة ونتائجها، حين قضى وقدّر أنّ أهل الحقّ لا ينتصرون دائمًا في حربهم مع أهل الباطل، بل جعل الحرب بينهم سجالًا، يغلب هؤلاء ويغلب هؤلاء، وهذه هي سُنّة الابتلاء: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون}، وسُنّة التّدافع: {وَلَوْلَا دفاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}، وسُنّة التداول، قال الله عزّت قدرته: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، ولو قدّر سبحانه وقضى بأنّ المؤمنين أهلَ الحقّ ينتصرون دائمًا في كلّ حرب ومعركة يخوضونها، وأنّهم في ازدهار وتطوّر ورفاهية دائمًا مهما تقلّبت الظروف وتعاقبت السنون؛ لآمن كلّ من في الأرض كرهًا لا طوعًا، ولبطلت حكمة الابتلاء، وتساوى النّاس في المواقف والسّلوك والأعمال.إنّ عقول البشر قاصرة عن إدراك أسرار القدر، وهي أضعف ما تكون أمام عظمة حكمة الله عزّ شأنه، إلّا أنّ الإنسان ذو دعاوى عريضة، وغرور كبير؛ ولذلك يخبط بعقله في الظّلمات ويحسب أنّه ينعم في التّنوير، ويعترض على الحكمة البالغة بالرّأي الفسيل، ويخال نفسه مفكّرًا كبيرًا! في كلّ الميادين وفي كلّ المواضيع! ومن ذلك مواقف كثير من النّاس من المعارك الّتي تدور رحاها بين الحقّ والباطل، في زمننا هذا، حيث تغوّل أهل الباطل والفساد والشّذوذ، وعلت أصواتهم، واشتدّ ضررهم وإفسادهم، فما كان من كثير من النّاس إلّا الخضوع للباطل وأهله والانخراط في إجرامهم ادّعاء للواقعية وانتهاجًا للنّفعية (البراغماتية)، أو انسحابًا من الحياة، وخذلانًا للحقّ بدعوى نُشدان السّلامة وإيثار العافية والانشغال بالنّفس، وما ذلك إلّا تشاؤم ويأس منهم، وتخاذل وتثاقل، وأكثرهم يقول: يستحيل أن تتغيّر موازين القوى، وهم يملكون التكنولوجيا والاقتصاد والسّلاح ويتحكّمون... غافلين عن سنن الله في خلقه، وعن صفحات التّاريخ اللامتناهية الّتي تؤكّد ما قرّره القرآن الحكيم من قانون عظيم: {وتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، فلم يبقَ قويٌّ قويًّا، ولم يبقَ ضعيفٌ ضعيفًا، ولم تخلد حضارة، ولم تدُم سيطرة دولة ولا نفوذها.نعم، إنّ أغلب النّاس غافلون عن سنن الله تعالى في خلقه، وقوانينه الّتي ذكرها في كتابه، ومن ذلكم غفلتهم عن القانون القرآنيّ الرّبانيّ الّذي يحكم المعركة بين الحقّ والباطل، حيث يقول الحقّ سبحانه: {وقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، فمجيء الحقّ يستلزم زهوق الباطل واضمحلاله، ومجيء الحقّ إنّما يكون بوجود أهله الّذين يتمثّلونه حقّا وصدقًا، والّذين يحملونه للنّاس، ويناضلون دونه، ويضحّون في سبيله، يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: “ومجيء الحقّ مستعمل مجازًا في إدراك النّاس إيّاه، وعملهم به، وانتصار القائم به على معاضديه، تشبيهًا للشّيء الظّاهر بالشّيء الّذي كان غائبًا فورد جائيًا... وجملة {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} تذييل للجملة الّتي قبله؛ لِمَا فيه من عموم يشمل كلّ باطل في كلّ زمان... ودلّ فعل كان على أنّ الزّهوق شنشنة الباطل، وشأنه في كلّ زمان أنّه يظهر ثمّ يضمحل”، هذه حقيقة قرآنية يقرّرها بصيغة التّوكيد، وإن بدا بادي الرّأي أنّ للباطل صولاتٍ ودولات وجولات، فالباطل ينتفخ وينتفش وآخرته ينتكس؛ لأنّه باطل مضادّ للحقّ، ومن ثَمَّ يحاول أن يموّه على أعين النّاس، حتّى يبدو عظيمًا كبيرًا ضخمًا راسخًا، وحقيقته أنّه هشّ هباء، سريع الاضمحلال والفناء؛ لأنّه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته، إنّما يستمدّ بقاءه الموقوت من عوامل خارجية، إذا تخلخلت تلك العوامل تهاوى وانهار. فأمّا الحقّ فجعل الله تبارك وتعالى قوّته من ذاته يستمدّ منها وجوده وبقاءه. يقول جلّ جلاله في ذات المعنى: {قُل إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوب قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيد}، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِق}، وانظر عظمةَ التّعبير القرآني حين يقرّر الله عزّ شأنه أنّه هو الّذي يقذف بالحقّ: {قُل إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ}، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ}، ويفهم من هذا أنّ الله جلّ شأنه هو وحده من يختار وقت انطلاق الحقّ وظهوره، وأنّه هو وحده من يصطفي أهل الحقّ الّذين يقذف بهم أهلَ الباطل {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}.وإنّ ممّا يجب أن ننتبه له، فلا يغِبَن عن أذهاننا أنّ الله جلّت قدرته قد قرّر أنّ الباطل إذا تجابه مع الحقّ، فإنّ الحقّ يدمغه، فيضمحل، وأنّ الحقّ إذا جاء زهق الباطل لمجيئه واندثر. والحقّ بداهةً يحمله النّاس، فمجيئه هو مجيء أهله الصّادقين المخلصين ووجودهم، فإذا وجدنا من يرى أو يدّعي أو يحرص على تمثيل الحقّ، ويرى نفسه يواجه الباطل ويجابهه، ومع ذلك لم يزهق الباطل ولم يضمحل، بل نراه يستعلي، فلا نشك أنّ (أهل لحقّ) فيهم دخن وضعف! أي أنّهم لا يتمثّلون الحقّ بصدق، ولا يمثّلونه بحقّ! أحسب أنّ هذا استنتاج منطقيّ، وإلاّ لو جاء الحقّ، أيّ جاء أهله؛ لزهق الباطل وتوارى.وهذا ما يوجب على من يدّعي أنّه يمثل الحقّ أن يراجع نفسه مراجعة تامّة، داخليّا وباطنيّا، نيّة وإخلاصًا وصدقًا وتجرّدًا، وفهمًا ووعيّا وإدراكًا، وأفعالًا وأقوالًا وحركاتٍ، وإتقانًا وإحسانًا وإجادةً. وحقّ لنا في هذا الزّمان أنّ نسأل: هذا الحقّ بيّن، فأين أهله الصادقون؟!*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات