ضياعنا بين العقلية الاشتراكية والنفسية الرأسمالية

+ -

 ما عدنا نسمع كلاما كثيرا حول الاشتراكية والرأسمالية في بعدهما الاقتصادي والسياسي منذ تهاوى المعسكر الشرقي وتغوّل المعسكر الغربي وسيطر نموذجه الرأسمالي المتوحّش، ولا أريد الخوض في هذا الحديث طبعًا، فلهذا الميدان مختصّوه والمهتمّون به. ولا ريب أنّ للاشتراكية عيوبَها وإيجابياتِها، كما للرأسمالية عيوبُها وإيجابياتُها، وقد جربّنا الاشتراكية لعقود، فما جنينا منها إلاّ تخلّفًا وفقرًا وفسادًا. كما جرّبنا الرأسمالية لعقود، وما جنينا منها إلاّ تخلّفًا وفقرًا وفسادًا.ومن المؤسف المؤلم أنّ النّخب الاقتصادية عندنا عاجزة عن تطوير نموذج خاص بنا أو تعديل ما هو موجود ليتوافق وقيمنا وظروفنا، وتكتفي بمجرّد ترجمة ما ينتجه الآخر، والتّسويق له مع الاجتهاد في صناعة الأحلام المبشّرة بالنّهوض والازدهار!، وحتّى لا نظلم اقتصاديينا فمن الواجب أخلاقيًّا الاعتراف بأنّ هذا حال النّخبة عامة عندنا وفي الدّول المتخلّفة كلّها: التّرجمة الحرفية والاجترار مع الدّعاوى العريضة!على كلٍّ ليس هذا الموضوع الّذي أريد الحديث عنه، وإنّما هذه فذلكة فاض بها الخاطر من وحي الموضوع المطروق. أمّا الموضوع فقد آثاره في نفسي ما نتحسّسه في الواقع، وما نقابله من مواقف في مجالات الحياة المختلفة، وما يزعجنا في فضاءات النّشاط المتنوّعة، إذ نجد سلوكيات سلبية جاثمة على صدورنا، وعادات مرذولة غالبة على كثير من النّاس، وعقليات وذهنيات ونفسيات مهلكة مسيطرة على كثير منهم! انجرّ أغلبها إلى نفوسنا وعقولنا واستقرّ من تجربتنا النّهج الاشتراكيّ وتجربتنا النّهج الرّأسماليّ بعده، فالاشتراكية تركت آثارها علينا والرأسمالية فعلت فعلتها فينا!إنّ الاشتراكية تركت فينا عقلية اللامبالاة، وأداء الحدّ الأدنى من العمل بالحدّ الأدنى من الجهد، وإنجاز العمل على أيّ وجه كان، والتّحايل على النّظم والقوانين، والحصول على الرّاتب بغضّ النّظر عن أداء العمل، واعتياد اكتساب الشّيء بالمجان من السكن الاجتماعيّ إلى أبسط شيء، وترسّخ ذهنية المطالبة بالحقوق والمستحقّات والغفلة عن القيام بالواجبات والتّهرّب من تبعاتها... الخ، وهذه كلّها عاهات ما تزال سارية موجودة في مجتمعنا، ويكفي القيام بزيارة لأيّ مؤسسة عمومية للتأكّد من ذلك، فلو زرت أيّ مستشفى عمومي لرأيتَ اللامبالاة والتّحايل في أبهى صورها، ممّا يدفع بكثير من النّاس إلى الهروب إلى القطاع الخاص، وهنالك يجدون نفس الطبيب الّذي استقبلهم في المستشفى العمومي يعالجهم، بنفسية أخرى وظروف أخرى، أمّا المستشفى العمومي فلا يتوفّر على أيّ تحاليل ولا أيّ أشعة، إذ هذه قد صارت حكرًا على القطاع الخاص، مع الميزانيات الضّخمة الّتي ترصدها الحكومة لتجهيز المستشفيات، ولكنّ الأجهزة غالبًا ما تكون معطّلة، فهي معطّلة من المصدر، ومعطّلة دائمًا، ولا أحد يكترث لها، ولا أحد يبالي لمعاناة (الفقاقير)! والأمر ذاته مع المؤسسات التّعليمية، فهي أيضًا ضحية العقلية الاشتراكية، وقد صارت مدارس الدّعم الخاصة أكثر في العدّ من المؤسسات الرّسمية، وفيها يدرّس أبناؤنا عند الأساتذة الّذين من المفروض أن يدرّسوهم في المدارس العمومية، ولكن المؤسسات العمومية مداخيلها زهيدة ومحدودة، ولا رقيب فيها ولا حسيب! فالتّدريس فيها بقدر إلاّ من رحم الله، والفهم لمَن قدر! ولا بأس أن يتحوّل التلاميذ إلى مدارس الدّعم، وهنالك يدرسون ويفهمون ويتفوّقون عند نفس الأساتذة! وسبحان مقلّب الأحوال...! وهكذا الحال في أغلب القطاعات العمومية، الّتي أنهكتها العقلية الاشتراكية وسارت بها نحو الإفلاس.والرّأسمالية هي الأخرى تركت ندوبًا غائرة في نفسيتنا، وهي الّتي لا تؤمن إلاّ بالمادة والرّبح والمال، ولا سبيل لها إلاّ الاستغلال والجشع، وقد وجدنا رجال الأعمال (والبزنازية) يستغلّون العمال أبشع استغلال، بالرّواتب الهزيلة، وحرمانهم من الضّمان الاجتماعيّ وغير ذلك، كما غلبت علينا النّفسية المادية الّتي لا تؤمن إلاّ بالرّبح (والفايدة) بغضّ النّظر عن الطريق والوسيلة الموصلة إليها، فشاعت المضاربة بالأسعار، واستغلال حاجات النّاس، بل واستغلال دين الله تعالى، دينِ الرّحمة ومواسمه العظيمة؛ لتحقيق الرّبح المضاعف على حساب لقمة العيش والحاجات الأساسية، وشاع الاختلاس والرّشوة والفساد المالي بكلّ صوره، إذ الجميع يريد أن يكون غنيًّا أو ثريًّا في أقرب وقت وبأيّ ثمن! فالرأسمالية لا تؤمن إلّا بالمال والمادة، ولا تقدّر إلاّ الأغنياء! وشاع الخداع وأكل المال الحرام والاحتيال (escroquerie) وتآكلت الثّقة بين النّاس حين غشيتهم القيم المادية. ومن ندوب الرأسمالية في نفوسنا الّتي نجد لها صورًا واقعية تبرزها، تلك الأثمان الباهظة للخدمات الّتي تقدّمها كثير من المؤسسات الخاصة، ثمّ يصدمك واقع هذه المؤسسات وتجهيزاتها ونوعية الخدمات المتوفرة فيها، فقد زرت في هذا الأسبوع مثلاً عيادة خاصة تأخذ مبالغ كبيرة على خدماتها الصّحية، وصدمت لبعض المناظر فيها: كراسي متهالكة ودورات مياه غير نظيفة وبها أعطاب... الخ، فتساءلت أيّ عقلية تسيّرها؟ وأيّ نفسية تشرف عليها؟ لا شكّ أنّها عقلية اللامبالاة ونفسية الرّبح وفقط!، وهكذا حال كثير من المؤسسات الخاصة الّتي يسيّر واقعها على نهج الاشتراكية، ولا يهتمّ مالكها ومسؤولوها إلاّ بتكبير رقم الأعمال ومضاعفة رأس المال!هذه صورة مجتزأة لواقع مرير، والمقام لا يسمح بالإطناب والإسهاب في الشّرح، وأرجو أن أكون قد قرّبت الفكرة والصّورة للقارئ الكريم. والأهم أن نتيقّن أنّ تغيير هذا يبدأ من نفس كلّ واحد منّا، وبجهد كلّ واحد منّا، يبدأ من تغيير ذهنياتنا وتغيير عقلياتنا وإصلاح نفوسنا، بغرس القيم الإسلامية السّامية، قيم الإنسانية الفاضلة، الّتي هي علاج لكلّ ضلال وانحراف: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، ومن أهم القيم الّتي ينبغي علينا الحرص عليها والبدء بها: قيمة المسؤولية: «ألا كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيته»، قيمة الرّحمة: «الرّاحمون يرحمهم الرّحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء»، قيمة العمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون}، قيمة الإتقان: «إنّ الله يُحبّ إذا عمل أحدُكم عملاً أن يُتقنه»، قيمة التّآخي الفعلي: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»، إلى غيرها من القيم الإسلامية الرّاقية الّتي تزكّي قلوبنا، وتقوّم سلوكنا، وتهدي نفوسنا، وتصلح أعمالنا، وتطهّر عقلياتنا ونفسياتنا من خبث الاشتراكية ورجس الرّأسمالية.إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات