الجمعة بين تقوية الإيمان وحاجات الإنسان

+ -

 يوم الجمعة يوم مشهود، وخطبة الجمعة معلم بارز في أحداث هذا اليوم، وهي وقفة جليلة مهيبة مقدّسة عظيمة، من أعظم مقاصدها ذكر الله تعالى وتجديد الإيمان، قال الله جلّ شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون}، وهذا التّفضيل ظاهر؛ ذلك أنّ منافع السّعي إلى ذكر الله تعالى باقية دائمة، أمّا المنافع الدّنيوية فهي زائلة فانية. وإن كان لا تعارض بينهما البتةَ؛ ولذلك قال الحقّ سبحانه عُقيب هذه الآية: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فالانتشار في الأرض والابتغاء من الطّيّبات الّتي سخّرها الله لبني الإنسان مطلوب، المهمّ أن لا ينسى المؤمن ذكر الله تعالى، بل عليه أن يذكر الله كثيرًا في كلّ وقت وكلّ مكان، وخاصة حين الانتشار لابتغاء فضل الله تعالى، وما خطبة الجمعة إلّا تذكير للإنسان بهذا حتّى لا ينسى.فالجمعة أرادها الله تعالى لتكون محطّة للمؤمنين تردّهم إلى ربّهم، وتقوّي إيمانهم، وتحصّنهم من زحف المادية القاسي على حياتهم وقلوبهم؛ ولذلك جاء في آخر السّورة الّتي تحمل اسمها (سورة الجمعة) قول الله تبارك وعزّ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِين}، وأخطر ما يزحزح النّاس عن الصّراط المستقيم في زماننا هذا هو السُّعار الاستهلاكي (التّجارة)، والسُّعار التّرفيهي (اللّهو)، ونفهم من هذا أنّ المطلوب والمرجو من شعائر الجمعة أن تقويَ إيمان المؤمن بذكر الله تعالى وتحصّنه من غائلة اللّهو والتّجارة، فإذا حقّق الإمام هذا فقد قام بوظيفته خير قيام، أمّا تعليم أحكام الإسلام بقواعدها وأصولها وتفاصيلها وجزئياتها فلها مجالها الأرحب في الدّروس والحلقات والدّورات والنّدوات.ولقد لفت نظري ازدياد حدّة ظاهرة كانت موجودة منذ زمن، ولكنّها ازدادت ظهورًا واشتدادًا، وهي ظاهرة انتقاد المواضيع الّتي يتطرّق لها الأئمة في خطبهم، وترافقها ظاهرة اقتراح المواضيع الّتي يجب أن يتناولها الخطباء... وهذا كلّه أمرٌ عاديّ ومفهوم، ولكن كأيّ ظاهرة إنسانية يوجد فيها دائمًا أمور غير مقبولة أو تجاوز للحدود، فهذه الظّاهرة كذلك رافقها بعض التّجاوزات بل الكثير منها، ويكفي المرء أن يقوم بجولة سريعة في الفضاء الأزرق ليُشْدَه من كثرة المنظّرين والمفكّرين، وكثرة النّقاد والمحلّلين، وكثرة المقترحين والمدبّرين.. وكثير منهم يُزري على الأئمة وينتقصهم ويتعالم عليهم، وينصّب نفسه أستاذًا للجميع. وهناك أيضًا الكثير ممّن يقدّم الملاحظات الدّقيقة والاقتراحات القيّمة جدًّا.لن أكشف سرًّا حين أقول إنّ كثيرًا أو بعضًا ممّن يرتقون المنابر بضاعتهم مزجاة، ومستواهم ضعيف، ووعيهم أضعف، وهذا من العوامل الّتي أدّت إلى ضعف تأثير خطبة الجمعة، وتراجع مكانة الإمام في نفوس النّاس وفي المجتمع، وجرأة من تجرّأ على مقام الإمام، إضافة للعوامل الأخرى، الّتي في مقدّمتها تصنيف الأئمة وتجريحهم والتّحذير منهم.. وموضوع تدنّي مستوى خطبة الجمعة وتدنّي مستوى بعض أو كثير من الأئمة يحتاج إلى نقاش طويل عريض، وإلى عمل كبير وجاد، ومراجعة شاملة للتّكوين القاعدي للأئمة، وكذا التّكوين المستمرّ لهم، وشروط الالتحاق بهذه الوظيفة الهامة والخطيرة.وفي المقابل فإنّ هذا الوضع لا يعطي الحقّ لكلّ من هبّ ودبّ أن (يدبّر) على الأئمة، ويلزمهم بمواضيع معيّنة، وينتقد ما يطرحونه من مواضيع، وهو غير مؤهّل من جهة، وينظر من زاوية ضيّقة من جهة ثانية، ويتكلّم على خطبة جمعة واحدة، ويغفل عن مسار الخطب طوال العام بل طوال أعوام. من جهة أخرى، إنّه من السّهل جدًّا أن نقترح موضوعًا هامًّا وجادًّا وواقعيًّا لجمعة واحدة، لكن المشكل في مسار خطبة الجمعة طيلة العام، كيف يتمكّن الإمام من المحافظة على مستوى عالٍ في خطبه كلّها؟ والأصعب أن يتميّز بمستوى متصاعد في مسار خطبه؟، هذا تحدٍّ كبير حقًّا.نعم، مطلوب من الإمام أن ينوّع مواضيع خطبه، وأن يجعلها شاملة وواقعية، تمسّ حياة النّاس ومشاغلهم وحاجاتهم، ومطلوب منه أن يحضّر خطبته تحضيرًا جيّدًا، ويطوّر من لغته وأسلوب أدائه، وأن يتثبّت من معلوماته ويحسن اختيار ألفاظه، كلّ هذا وأكثر مطلوب من الأئمة؛ لأنّهم ارتقوا مرتقى صعبًا، ووقفوا موقفًا جليلًا سيسألون عنه؟. ومن أهمّ الواجب عليهم عدم الغفلة عن مقاصد الشّرع من خطبة الجمعة، وعلى رأسها تذكير النّاس بربّهم تعالى، وأحكام دينه، وحقيقة الدّنيا، واليوم الآخر، الّذي ينساه أكثر النّاس ويغفلون عنه، حبًّا للدّنيا واغترارًا بها: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَة}، وتحصينهم من المبادئ الهدّامة والرّوح الماديّة المدمّرة. أمّا ما يطلبه كثير من النّاس من الأئمة: أن يتركوا المواضيع الإيمانية البحتة، ويتركوا المواضيع الغيبية المحضة، وأن لا يتكلّموا إلّا في الانشغالات اليومية، والقضايا الدّنيوية (طبعًا من وجهة نظر الدّين).. هذا قصور نظر، وقلّة علم بحقيقة الجمعة ووظيفتها ومقاصدها، وسحب لخطبة الجمعة لارتداء سربال المادية والحياة الدّنيا.إنّ من أصعب الوظائف وأخطرها وظيفة خطيب الجمعة، وقد كان لا يتبوؤُها إلّا كبار العلماء علمًا وسِنًّا، ومع كثرة المساجد وضعف التّكوين العلمي عمومًا والشّرعي خصوصًا، وجد كثير من الأئمة ذوي المستوى المعدوم أو الضّعيف، وهؤلاء لا ننتظر منهم خطبًا عصماء ولا تميّزًا وإقناعًا، ولكنّنا لم نعدم أئمة وخطباءَ يقومون بمهامهم على أحسن حال وأتمّه، رغم صعوبة الأمر والظّروف غير المواتية. وإنّي أقول من خضم المعاناة والتّجربة: إنّه لا أشقّ ولا أصعب من أن تكون خطيب جمعة في هذا الزّمان، وتزداد المشقّة حين تكون حريصًا على القيام بعملك كما يجب: حسن اختيار الموضوع، والمستوى الجيّد، والأداء الحسن الجذّاب، وقوّة الحجّة والإقناع، والتّوازن في الطّرح، والواقعية الواعية... ولا يعرف الشّوق إلّا مَن يُكابده!! وأقول: إنّ خطبة الجمعة مسؤولية الجميع، وهي من أعظم وسائل الإصلاح والتّغيير، فلا بدّ أن ترجع لها قيمتها، ولا بدّ أن لا يمكّن منها إلّا من تكوّن وتأهّل لها تكوينًا جيّدًا، ولا بدّ مع ذلك أن توضع برامج التّكوين المستمرّ للأئمة للاستمرار في تحسين المستوى والأداء، ولا بدّ أن يكفّ من ليس بأهل من التّجرؤ على خطبة الجمعة، والتّطاول على الأئمة، والتّشويش على العامة.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات