القدس بين إعلان القرآن وإعلان الأمريكان

+ -

 القرآن الحكيم هداية شاملة عامة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم}، ولو يداوم المسلم على قراءته وتلاوته وتدبّره كما أمره ربّه عزّ شأنه: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآن}، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ..}، فستفتح له أبواب الهداية: بأن يتشكّل عقله تشكيلًا علميًّا فلا يتقبّل دعوى من غير دليل: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين}، ولا يرضى بالتّناقض والكيل بمكيالين: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}، وتتربّى نفسيته على العدل: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، والإنصاف: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، ويقوم فكره على رحابة الأفق وسعة النّظر: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين}، {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}.ومن روائع القرآن العظيم، والقرآن الكريم كلّه روائع وإعجاز، تلك السّورة العظيمة الّتي سمّاها الله تعالى على اسم القوم الّذين هم أكثر الأقوام تأثيرًا سلبيًّا سيّئًا في تاريخ البشر: سورة الرّوم، أيّ الأوربيون، مع استحضار أنّهم غزوا قارات العالم واستأصلوا ما قدروا عليه من أقوامه الأصلية بوحشية - تتبرّأ منها الوحوش! - واستوطنوا بلدانهم، فصاروا العنصر الأغلب في أكثر دول العالم، وقد أشار إلى هذه الحركة الاستعمارية الاستيطانية حديث شريف صحيح، حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ» رواه مسلم.هذه السّورة العظيمة المعجزة تتعدّد مظاهر العظمة والإعجاز فيها، وتضيق المجلدات عن بيانها وشرحها، بَلْهَ مقال موجز مثل هذا! وإنّما أريد التّنبيه على ملمح عظيم يهُمّ المسلم المعاصر في حياته، ويهديه سواء السّبيل في فهم شؤون العالم، ذلك أنّ هذه السّورة افتتحت بنبأ معجز، وهو إخبار عن غيب قريب، لا يمكن لأيّ واحد من البشر الجزم به، قال تعالى: {آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وقد تحقّق كما أخبر العليّ القدير، والملمح العظيم نلمسه من معرفة الوقت الّذي أنزلت فيه هذه الآيات، حيث نزلت في مكّة حين كان المسلمون مستضعفين مضطهدين، والمعركة عالمية بين القوى العالمية الكبرى آنذاك، قال ابن عبّاس رضي الله عنه: كان المشركون يحبّون أن تظهر فارس على الرّوم؛ لأنّهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبّون أن تظهر الرّوم على فارس؛ لأنّهم أهل كتاب، فذُكر ذلك لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا إنّهم سيغلبون»، فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلًا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا. فجعل أجلا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ألا جعلتها إلى دون العشر». [بضع في اللّغة ما دون عشرة] ثمّ ظهرت الرّوم بعد، قال: فذلك قوله: {آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ...}” رواه أحمد وغيره.فانظر إلى موقف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وموقف أبي بكر والصّحابة الكرام عليهم الرّضوان، وكيف اهتمّوا وانشغلوا بالأحداث العالمية، رغم ظروفهم الصّعبة؟، وتصوّر لو وجد مسلمون معاصرون بعقليتنا المتخلّفة في ذلك الوقت!، حتمًا سيكون موقفهم سلبيًّا احتجاجيًّا: (احنا في همومنا.. واش ادّانا للروم والفرس!/ الواحد ما يعرفش يتوضّى وما يعرفش يصلي وأنت تهدر على الفرس والرّوم... الخ)، ولكن القرآن العظيم يُربّي المسلم على العالمية والعلمية، وعلى أن يعيش ظروف عصره بمعطياته المتداخلة، وعلى أن يهتمّ لشؤون المسلمين خاصة وشؤون البشرية عامة.. فأين نحن من هداية القرآن الكريم؟!إنّ العالم - كما يعلم الجميع - يعيش مخاضًا عسيرًا غامضًا، أبرز بؤره: الحرب السّاخنة في أوكرانيا، والحرب الدّافئة في تايوان، والحرب الباردة في كلّ مكان، وأعظم قضاياه: قضية فلسطين، الّتي بلغ التّآمر عليها منتهاه من الإخوة والأصدقاء قبل الأعداء، إذ في معمعة الأحداث العالمية المتأجّجة وفي خضم زوابع الأزمات الاقتصادية الّتي تطّل برأسها، لم يتأخّر الأمريكان تجار الحروب والدّمار بالمسارعة لمعاكسة الأقدار ومسار التّاريخ، يحاولون إرفاد ربيبتهم الدولة الصهيونية الوحشية، بما أسموه ‘إعلان القدس’، وما هو إلاّ إعلان الأمريكان، وما هو إلّا كسابقيه من الإعلانات والوعود: إعلان مَن لا يملك لمَن لا يستحقّ! وما يريدون منه إلّا أن يقفزوا به خطوات للإمام، بعد أن استيقنوا أنّ سياسة التّطبيع لا يمكنها أن تحمي الكيان الصّهيوني من الزّوال القريب، رغم هرولة كثير من الدّول العربية إليه، فقفزوا في الهواء وانتقلوا إلى ما أسموه سياسة: دمج الكيان الصّهيوني بدول المنطقة (خاصة من الناحية العسكرية) أو سياسة إشراك الكيان الصّهيوني مع دول المنطقة، وقد يبدو الأمر لأوّل وهْلة أنّه لا يعدو تنويع مصطلحات، ولكن حقيقة الأمر أنّه طوق النّجاة الأخير أو القريب من الأخير الّذي ترميه أمريكا وحلفاؤه للكيان الصّهيونيّ؛ لأنّه يعيش مرحلة خطيرة جدًّا تنبئ عن إرهاصات الزّوال: فهو داخليًا يعيش أزمات مزمنة حادّة (الكنيست حلّ عدّة مرّات وأجريت انتخابات مبكرة عدّة مرّات، والفشل في تشكيل الحكومة تكرّر مرّات ومرّات، وقادة الكيان يتحدّثون بصوت مرتفع مرعوب عن زوال الكيان... الخ)، وخارجيًا تزداد معدلات العداء للسياسات الصّهيونية، وتزداد قوى المعارضة لسياساتها والمقاطعة لمنتجاتها خارج المجال العربي الإسلاميّ، وفي المجال العربي الإسلامي فشلت سياسات ترويض الشّعوب رغم التّقدّم الظّاهريّ الّذي حقّقه التّطبيع، فالكراهية والعداء عند الشّعوب العربية الإسلامية للصهاينة والمطبّعين معهم بلغت مستويات غير مسبوقة، هذا وغيره يبيّن أنّ طوق النّجاة الأمريكيّ طوق مثقوب لا ينفع طويلًا. وإعلانهم الاستعماري إعلان أحمق لا يمكنه الصّمود أمام إعلان القرآن حول القدس والمسجد الأقصى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير}، فما دام هذا الإعلان القرآني يتلوه المسلمون، ومهما وجد خونة ومتخاذلون منهم سيأتي من يتمسّك بإعلان القرآن ويحرّر الأقصى رغم أنف الأمريكان ومن والاهم من الغربيين والعُربان: {ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون}.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات