+ -

لست مُتشائمًا، ولا أحبّ التّشاؤم مطلقًا، وإنّي لمطمئنٌ مستيقنٌ أنّ مستقبلنا سيكون خيرًا من حاضرنا، وغدنا خيرًا من أمسنا.. لكن متَى ذلك؟ الله أعلم.. وهل سيطول ميعاد هذا التّغيير أم يقصر؟ الله أعلم، فهناك عوامل كثيرة تتحكّم في ذلك وتؤثّر فيه، ولا ريب أنّ في مقدّمتها العامل البشريّ. إلّا أنّنا سنكون مغفّلين جدّا إذا أغمضنا أعينَنَا عن رؤية الحقائق السّاطعة تحت شعار التّفاؤل! وإذا دفنّا رؤوسنا في تراب التّفاؤل النّاعم الحالم حتّى لا نرى عوراتنا!لهذا من الواجب اللّازم حينما نتناول موضوع الدّراسة والمنظومة التّربوية أن نكون صرحاء جدًّا، واضحين لأبعد حدّ، نوصف الوضع كما هو، ونسمّي الأمور بأسمائها، ومن ذلك أنّ ما أطلق عليه (إصلاحات) نتيجته الواقعية الّتي لا يجادل فيها إلّا مكابر آلت إلى (إفساد) للمنظومة التّربوية، وقد سبق أن طرقت هذا الموضوع، وخلاصة الكلام فيه: الجميع متّفق على أنّ المستوى (تلاميذ وأساتذة) ضعيفٌ بشكل مريع، وعلى أنّ المستوى يتراجع عامًا بعد عام، حتّى البكالوريا صارت بمعدل (9)!! وما دام الجميع متّفقًا على هذا التّوصيف، فمن الجنون والهبل الكلام على الإصلاحات! بل العقل والمنطق يستوجبان محاسبة من أشرف على هذه العملية ومعاقبته!لا أريد تكرار القول في هذه الجزئية ولا توسيعه، إنّما أريد التّعريج على جانب هام جدًّا من الجوانب المتعلّقة بالدّراسة، ونحن على أعتاب الدّخول المدرسيّ والجامعيّ. هذا الجانب المهمل أراه أهمّ الجوانب؛ لأنّه الجانب الحاسم في نجاح العملية التّعليمية أو فشلها، إذ لا نختلف أنّ الجوانب النّفسية والمعنوية هي الجوانب الهامة والحاسمة في كلّ نشاط بشري صغير أو كبير. وكيف ننتظر من أبنائنا اهتمامًا بالدّراسة ونجاحًا فيها وهم يقبلون عليها في غالبيتهم بلا روح ولا دافع ولا تحفيز؟! ولا هدف ولا غاية ولا أفق؟! كيف ننتظر منهم اهتمامًا بالدّراسة ونجاحًا فيها وكلّ ما حولهم يزهّدهم فيها وينفّرهم منها؟ كيف ننتظر منهم اهتمامًا بالدّراسة ونجاحًا فيها ونحن لم نربّهم على أنّ طلب العلم فريضة، والحرص على التّفوق فضيلة، والتّنافس في الخير والمعالي واجب؟ كيف ننتظر منهم اهتمامًا بالدّراسة ونجاحًا فيها ونحن لم نربّهم على تعظيم العلم، واحترام الأساتذة والمعلّمين والمربّين، والاقتداء بالعلماء وتوقيرهم؟ بل العكس كبروا وهم يروننا نقدّس اللاعب والممثل والممثلة والرّاقصة؟ كيف ننتظر منهم اهتمامًا بالدّراسة ونجاحًا فيها وهم يرون الأساتذة والمعلّمين والعلماء من أفقر النّاس؟ واللاعبين والممثلين وكلّ الفارغين في أرغد عيش وأوسع كسب؟ كيف ننتظر منهم اهتمامًا بالدّراسة ونجاحًا فيها وهم يرون أنّ النّجاح في الدّراسة وبلوغ أعلى المراتب فيها لا يضمن الوظيف ولا الرّغيف ولا العيش العفيف؟نعم، مهما طوّرنا من مناهجنا، ومهما (أصلحنا منظومتنا التّربوية)، ومهما حسّنّا من حال مؤسساتنا وتجهيزاتها، فلن ينفع ذلك إذا لم توجد النّفس المتوثّبة لدى تلامذتنا وطلّابنا، إذا لم يوجد الإيمان الّذي يحرّكهم لطلب العلم تعبّدًا واحتسابًا، إذا لم يوجد الدّافع الّذي يحملهم على الجدّ والاجتهاد، إذا لم يوجد الحافز الّذي يحضّهم على النّجاح ويحثّهم على التّفوّق، إذا لم يوجد الأمل الّذي ينوّر لهم دروب المستقبل، إذا لم يوجد الهدف الّذي يجعلهم يقبلون التّحدّي، إذا لم توجد البيئة المساعدة الّتي تطمئنهم على المستقبل.إنّ تغيير هذا الوضع المزري وإصلاحه يحتاج لعمل كبير، وجهد كبير، وبذل كبير، لا يسمح المقام بتفصيل الكلام عليه؛ لذا سأجمل القول في خطوتين رئيسيتين: الخطوة الأولى تبدأ من النّفس: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم}، ”وإنّها لَشِرْعَة السّماء: غيّر نفسك، تغيّر التّاريخ!”. وإنّ تغيير ما بنفوس تلامذتنا وطلّابنا يحتاج لعمل كبير، وفي ميادين متعدّدة، إلّا أنّ العامل الدّيني هو أهمّ العوامل تأثيرًا وتغييرًا حين نتحدّث عن إصلاح النّفوس، وتصوّروا كيف سيكون حال أبنائنا وبناتنا حين نغرس فيهم القيَم الإسلامية الّتي ترفع العلم والعلماء إلى مقام لا يحظى به غيرهم من النّاس، فهم تحت الأنبياء وفويق باقي النّاس، «مَن سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنّة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإنّ العالم ليستغفر له من في السّموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء. وإنّ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء وإنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنّما ورّثوا العلم فمَن أخذه أخذ بحظّ وافر» رواه أبو داود، والله عزّ شأنه يقول في كتابه: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}، فمن غير العلم لا نرتفع ولا يرتفع أبناؤنا، ولا ترتفع نفوسهم واهتماماتهم وطموحاتهم، لن يرتفع حالنا من غير العلم وتقديس العلم والحرص على العلم.والخطوة الثّانية تتعلّق بالمجتمع وإصلاح أوضاعه، وأوّل ذلك تقويم سُلّم القيَم، وتصحيح سلّم المقامات، فنردّ الأمور إلى نصابها: نرفع مَن رفعه الله تعالى ونضع مَن وضعه، نقدّم مَن حقّه التّقديم ونؤخّر مَن حقّه التّأخير. نقدّر مَن يقومون بما ينفع النّاس في دينهم ودنياهم ونهتمّ بهم، ولا نهدر أوقاتنا ومقدّرات الأمّة على الفارغين والفارغات، من صنّاع اللّهو والتّرفيه، الّذين يكسبون ولا ينتجون، ويستفيدون ولا يفيدون! ثمّ نقوم بإصلاحات جذرية حقيقية تردّ للعلم والشّهادات العلمية قيمتها المعنوية والاقتصادية، فلن تبنى البلاد بالأقدام وهزّ البطون، وإنّما تبنيها العقول الذّكية والكفاءات العلمية، ومن الواجب أن توزّع ثروة الأمّة توزيعًا عادلًا، فمن كان أنفع للبلاد والعباد كان نصيبه أكبر، ومَن نجح في دراسته من حقّه أن يوظّف وظيفة تحفظ كرامته وكرامة أسرته! ولن تنجح المدرسة والجامعة إذا لم يكن للتلاميذ والطلّاب روح وهدف وأفق وسيع بهيج.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات