+ -

 يفتقد العالم الإسلامي بين الفينة والأخرى علماء أفذاذًا خدموا الأمّة بأعمالهم الجليلة وخلّفوا إرثًا كبيرًا من العلم يستفيد منهم النّاس على مرّ الأجيال، حيث فقدت الأمّة في سنينها الأخيرة عددًا من أهل العلم الكبار الّذين أفنوا أعمارهم في العلم والتّعليم والإفتاء والقضاء والتّوجيه والإرشاد وإبداء المواقف في الملمّات، وتبيين الطّريق في الأزمات، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والدّعوة إلى الله جلّ وعلا، والتّأليف في مختلف المجالات النّافعة، وغير ذلك ممّا كان له أبلغ الأثر والنّفع لعامة النّاس.حُقّ للأمّة أن تحزن لموتهم، وتأسى لفراقهم، لأنّ ذلك ثُلمة في جدار المسلمين، وشرخ في بناء حضارتهم. قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}؛ قال ابن عبّاس في رواية: “خرابها بموت علمائها، وفقهائها، وأهل الخير منها”، وقال مجاهد: “هو موت العلماء”.إنّ الموت قدر محتّم على كلّ حيّ، لا ينجو منه كبير ولا صغير، ولا غنيّ ولا فقير، ولا شريف ولا حقير، ولا حاكم ولا محكوم، ولا عالم ولا جاهل، ولا ذكر ولا أنثى.. الموت نهاية الحياة الدّنيا، وبداية حياة الآخرة، يقول تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.وإنّما يعظم أمر الموت، ويفظع شأن المصاب، إذا كان المفقود عالمًا من علماء الأمّة، تستنير بعلمه البلاد، ويستضيء بفقهه العباد. فالعلماء ورثة الأنبياء، وجودهم خير عظيم، وفقدهم مصاب جسيم. فهم نواب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدّعوة إلى الله، وهم الملاذ - بعد الله تعالى - لبيان مراد الله من دينه، يقول تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.عن عمرو بن العاص قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: “إنَّ الله لا يَقبض العلمَ انتزاعًا يَنتزعه من العباد، ولكن يقبض العلماء حتّى إذا لم يَبْقَ عالمٌ اتّخذ النّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا فسُئِلوا فأفْتَوا بغير علم فضَلُّوا وأضلّوا”.بل إنّ موت العلماء شرط من أشراط السّاعة، يقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “إنّ من أشراط السّاعة أن يُرفَع العلم، ويُثبّت الجهل”. ولهذا يُعدُّ موت العالم خسارةً فادحة ونقصًا كبيرًا وثُلمةً في الإسلام لا تسدّ.ولا يخفى على كلّ مسلم مكانة العلماء ورفعة شأنهم وعلوّ منزلتهم وسموّ قدرهم، إذ هم في الخير قادة وأئمة تُقتصُّ آثارهم، ويُقتدى بأفعالهم، وينتهي إلى رأيهم، تضع الملائكة أجنحتها خُضعانًا لقولهم، ويستغفر لهم كلّ رطب ويابس حتّى الحيتانُ في الماء، بلغ بهم علمهم منازل الأخيار ودرجات المتّقين الأبرار، فسمَت به منزلتهم وعلت مكانتهم وعظم شأنهم وقدرهم، كما قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.موت العلماء مصيبة وأيّ مصيبة، إنّها مصاب للأمّة جمعاء لأنّهم مصابيح الدُّجَى وعلامات الهدى، هم كالشّمس في النّهار، والعافية للبدن. ولهذا فإن فقدَهم خسارة فادحة، وموتهم مصيبة عظيمة، لأنّهم نور البلاد، وهُداة العباد، ومنار السّبيل، فقبضهم قبضٌ للعلم، إذ إنَّ ذهاب العلم يكون بذهاب رجاله وحملته وحُفّاظه.وإذا نظرنا في صفحات التّاريخ رأينا صفحات مشرقة وسيرة عطرة ومآثر ندية لعلماء الإسلام الأعلام كيف كانت حياتهم وكيف ضحّوا بمهجهم وأفنوا أعمارهم في العلم والتّعليم ونفع النّاس، ورغم أنّ هؤلاء قد رحلوا إلى الدّار الآخرة كغيرهم ممّن رحلوا عن الدّنيا إلّا أنّ ذِكرَهُم باق، والذِّكر للإنسان عمر ثان، فما زالت أنهار هؤلاء العلماء جارية وينابيعهم صافية يستقي منها الظّمآن ويرتوي منها العطشان، وهؤلاء هم علماء الأمّة الصّادقون العاملون في كلّ عصر ومصر.وإذا كان من قد يروقهم موت علمائنا، وفرحوا بفقدهم ولم يُبدوا أسًى، بل يتشمّت البعض بموتهم، فليُبَشّروا بما يسوءهم، فإنَّ الله وعدنا على لسان نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم أنَّه يبعث على رأس كلِّ مائةِ سنةٍ مَن يُجدِّد لهذه الأمَّة أمر دينها، فلا يموت جيلٌ من العلماء حتَّى يخلفه جيل آخر، إلّا ما شاء الله، ولا يزال اللهُ يغرس في هذه الأمّة مَن يُبَصِّرها بأمر دينها، وينفي عن الدّين تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين؛ “ولا تزال طائفة من الأمّة على الحقّ ظاهرين، لا يَضُرُّهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم، حتّى يأتي أمر الله وهم على ذلك”، قال حمَّاد بن زيد:حضرت أيُّوب السختياني وهو يغسِّل أحد أصحابه، وهو يقول: “إنَّ الّذين يتمنَّون موت أهل السُّنَّة يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله مُتِمٌّ نوره ولو كره الكافرون”.اللّهمّ ارْحَم علماء المسلمين، اللّهمّ أنزل على قبورهم الضّياء والنّور والفسحة والسّرور، اللّهمّ أجزهم عنّا خير ما جزيت عالمًا عن أمّته.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات