+ -

 لا نفتأ نؤكد ونكرر أن لا عصمة إلا لمن عصم الله تعالى من أنبيائه ورسله، وقد قرر الإمام مالك رحمه الله تعالى قاعدة متفرعة عن هذه الحقيقة سارت بها الركبان، هي أن كل عالم يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب القبر صلّى الله عليه وسلم. وهاتان البديهيتان أصدق ما يصدقان على السادة العلماء، إذ الدهماء من غير المختصين وغير الخبراء لا عبرة لرأيهم ولا لقولهم، لا في علوم دين الله تعالى وشرعه، ولا في العلم بكون الله تعالى وخلقه، فلكل فن رجاله، ولكل ميدان فرسانه، ولكل تخصص أهله.مقتضى هاتين البديهيتين أن العالم مهما بلغ في درجات العلم وارتقى، فلن يعصمه ذلك من خطأ، ولا يمنع ذلك من ترك قوله ورفض رأيه، ورده عليه، وهل تطور العلم واستمر، وتوسع وتبحر إلا برد العلماء بعضهم على بعض؟! ونقدهم لبعضهم بعضا؟! واستدراك الآخر منهم على السابق؟!إن العالم يخطئ، بل إن كل عالم إلا وقد أخطأ، بلا ريب، وليس عليه في ذلك تثريب، فهذه طبيعة البشر، ومن رحمة الله تعالى الواسعة أنه يجازي العالم المؤهل الكفء على خطئه في اجتهاده، كما صح بذلك الحديث: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» رواه البخاري ومسلم. وهذا الأمر هو من محاسن الإسلام الكبرى التي ضيعها المسلمون أو كثير منهم بسيرهم في طريق تتبع الأخطاء والمعاقبة عليها. إن هذا الحديث الشريف هو دعوة صريحة للاجتهاد، وحث شديد على التفكير، وحض على النظر، فحواه ناطقة بأن: فكروا، اجتهدوا، حتى إن أخطأتم.. أنتم مأجورون في كلّ حال إذا اجتهدتم وفكرتم سواء أصبتم أو أخطأتم!فأي دين أو فلسفة أو مذهب حث على التفكير بهذا الرقي وهذه الشدة والحرص؟! إن الأصل أن يكون هذا الحديث ضمان للعلماء من أن يؤاخذوا على أخطائهم أو يحاكموا أو يعاقبوا أو يعدموا! بيد أن الذي حصل في هذا الزمن البئيس يُظهر مدى تنكب كثير من المسلمين للهدي النبوي ومخالفتهم لهذه السنة الشريفة وغيرها من السنن، والأغرب الأعجب أن يتم كثير من ذلك تحت شعار الدعوة للسنة أو الدفاع عن السنة!إن هذه الحقيقة يجب أن تبرز ويذكر بها الناس حتى يتحمل كل شخص مسؤوليته، خاصة أن الأمر يتعلق بمسؤولية الكلمة مكتوبة أو مقولة، وحتى يعرف كل شخص موقعه، إذ هنالك من خاض في هذا الباب ببرامج وخطط واضحة، وهناك من شارك بنية صادقة وما كان يريد إلا خيرًا، وكم من مريد للخير لن يصيبه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. وقد لا يستسيغ البعض هذه المقاربة التي سأذكرها منبهًا فيها على انحراف خطير سبب ولا يزال يسبب مآسٍ كبيرة، ولكن التفكير بعمق فيها دون خلفيات ولا حساسيات، وتتبع آثارها في الواقع سيبين مدى صدقيتها ووضوحها رغم عدم انتباه الكثيرين لها، ولا يغرنك سقوط بعض العلماء والفضلاء فيها، فقد تقرر أن العلماء يخطئون كغيرهم، ويؤخذ من كلامهم ويترك حتى كبار العلماء والعلماء الربانيين!إننا نشتكي جميعا من حال هذا الجيل، الذي انفتح على الضياع، حتى صار بعض أبنائنا يقعون صرعى تمويهات الإلحاد على سخفه وتفاهته، وكثير منهم يغرقون في مستنقع الفجور والعبثية على قذارته ونتانته، وأغلبهم انفض عن العلماء لا يقدرهم، ولا يسمع لقولهم، ولا يتبع رأيهم، وانكبوا على الفارغين والفارغات من اللاعبين والممثلين والمغنيات وغيرهم، من الذين يجتذبون الناس إليهم باللهو والمجون والإغراء، ويستغلون الجماهير المخدرة لتكديس الأموال ليس إلا.والسؤال لماذا حدث هذا؟ بهذه السرعة؟ والجواب واضح بين: كل ظاهرة بشرية معقدة لها أسباب متداخلة متعددة. وفي مقدمة هذه الأسباب بالنسبة لهذه الظاهرة: القتل المعنوي الذي تعرض له كثير من العلماء المعاصرين، الذين يفترض أن يكونوا هم مرجع الشباب والشابات، يلجؤون إليهم في الملمات، يهتدون بقولهم، ويستنيرون برأيهم، ويحتمون بفكرهم من هجمة الشبهات والتشكيك، ويعتصمون بإرشادهم من موجة الشهوات والإغراء. لكن الذي حدث أن بعض (العلماء، والدعاة، والدكاترة) وطلبة العلم كان نظرهم قاصرا لا يجاوز أنوفهم، وينطلق من مرجعية مذهبية (طائفية) ضيقة جدا، أطلقت حملة شعواء من الردود العلمية وغير العلمية على كل من خالفهم في أصول الدين أو فروعه، تحت شعارات براقة جذابة لا يوجد مسلم في الدنيا يخالفها، من مثل الدفاع عن العقيدة الصحيحة، والدفاع عن السنة، ومحاربة البدعة... الخ. فما تركوا عالم من العلماء، ولا داعية من الدعاة، ولا شيخ من الشيوخ (وخاصة المشاهير منهم والمؤثرين) إلا وأقاموا له محاكم تفتيش عن عقيدته ومنهجه، وأصدروا في حقهم أحكاما مرعبة: ضال العقيدة، مبتدع، مخالف لمنهج السلف، عدو للسنة... الخ، ومحاكمة التفتيش هذه قاسية جدا، فهي لا تقبل استئنافا ولا تستمع لدفاع، ولا تشفع لها أطنان من الصواب والعمل الصالح، بل من أمسكت عليه خطأ أو مخالفة (طبعا من وجهة نظر القائمين عليه)، فالويل له ولأمه الثبور!فبعد الحكم عليه بإعدامه معنويا تأتي إجراءات التنفيذ: التحذير منه، والتشهير به، ونشر خطئه وإذاعته، وتحريم الاستماع له، وقراءة ما يكتب، أما الجلوس له فهو الضلال الذي ما بعده ضلال! هكذا قُتل معنويا أكثر العلماء المعاصرين!، وكل العلماء والدعاة المؤثرين!وإن من سنن الله الثابتة ما جاء في الأثر: كما تدين تدان، وهذا ما حصل فإن محاكم التفتيش هذه لما أجهزت على كل المخالفين من علماء المسلمين ارتدت على أصحابها تأكلهم واحدا واحدا، فما سلم من شرها ونارها أحد!، والنار إذا لم تجد ما تأكل أكلت نفسها! والنتيجة: شك عام في كل العلماء، سقوط هيبتهم عند الناس وخاصة الشباب، انفضاض الناس عنهم وبحثهم عن مرجعيات أخرى. وهنا وجد أعداء الأمة أنفسهم في راحة، إذ وجدوا جماهير المسلمين تقبل عليهم من غير جهد منهم ولا بذل، ووجدوا الطرق مفتوحة لعقول كثير من المسلمين وقلوبهم ومجتمعاتهم ودولهم، فالحراس (العلماء) قد قتلوا قتلا معنويا من طرف إخوانهم، ووجودهم صار كالعدم؛ لأن تأثيرهم انعدم أو ضعف واضمحل، إذ قد صاروا محل جدل ونقاش لا توجيه وإرشاد، ومحل شك واتهام لا ثقة واطمئنان.. بسبب الردود، والتحذير، والتصنيف، والهجر، والتعصب الأغبى والجهل المريع.إن العلماء هم ورثة الأنبياء كما هو معلوم للجميع، وسقوط العلماء ضياع لهذا الميراث العظيم، حتى يأتي الله تعالى بمن يقوم به؛ والله عز شأنه بين السبيل لكل مسلم: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، وقتل العلماء معنويا هو صد عن هذا السبيل ومخالفة لأمر الله تعالى وقصده، والخلاف الديني فقه أو عقيدة أو غير ذلك، لا يجوز استغلاله لقتل المخالفين معنويا، وهو في الأصل ميدان تنافس وتسابق في الخيرات، نُشدانا للحق وحرصا على هداية الخلق، لا مجال للتشفي من المخالفين، وبعثهم أرسالا إلى جهنم.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات