+ -

إن قضية الحرية التي بحثت تحت مسائل فرعية كثيرة منها “القضاء والقدر”، “الجبر والاختيار”، “الكسب”، “خلق الأفعال”، “الإرادة الإلهية”، “القدرة الإنسانية”، من قبل علماء الكلام وأساطين الفلسفة، ومع النقاش الواسع الذي دار بينهم، فإن علماء الأصول والمقاصد ظلوا متجاهلين لها في دراسة مقاصد الأحكام الشرعية، واستمر الوضع على هذا النحو على الرغم مما انتاب الفكر المقاصدي من تطور كبير على يد علماء الشريعة وبخاصة، الإمام عز الدين بن عبد السلام ثم أبو عبد الله المقري – شيخ الشاطبي – ثم الإمام الشاطبي الذي أبدع فأمتع، وما كاد صبح القرن العشرين أن يتنفس حتى جاء الإمام ابن عاشور، فتحدث عن مسألة الحرية ضمن علم المقاصد، وخصها بفصل عنون له “مدى حرية التصرف عند الشريعة ومعنى الحرية ومراتبها”، فكان هذا العمل بمنزلة خطوة على طريق لا يزال يحتاج إلى المزيد من العمل والاكتشاف.إن الحريات مهما كان نوعها وطبيعتها، فإنه من الصعب الفصل بين أنواعها؛ لأنها وصف كلي لا يقبل التجزئة، ولذلك نجد أنه إذا فُقِد نوع منها عاد على أصلها بالاختلال، وإذا كانت حرية الإنسان مرتبطة بحياته، فإنه متى فقدها فقد ذاته، فهي حاجة ملحة له، وضرورية لحياته، وليست حقًا بإمكان الإنسان أن يتخلى عنه؛ بل هي واجب عليه، وفريضة وأمانة، فالحرية تعني في أقرب معانيها؛ أن يكون الإنسان متمكنًا من الاختيار بين وجوه ممكنة من القناعات الذهنية والتعبيرات القولية، والتصرفات السلوكية، سواءً على مستوى الفرد في خاصة نفسه، أو على مستوى انتمائه الجماعي.ومن ثم جاء حرص الشريعة على عد الحرية مقصدًا من مقاصدها الضرورية، واستقراء ذلك واضح من تصرفات الشريعة التي دلت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبودية وتعميم الحرية؛ حرية الذات والقول والفعل والتصرف والاختيار، وفق ضوابط وقيود تحكم استعمالها حتى لا تعود على أصلها بالنقض وعلى الفرد والمجتمع بالضرر، وهو الحد الذي قد يؤدي إلى هدم الحياة الجماعية؛ بل قد يؤول إلى هدم الحياة الإنسانية، وعليه فإنه لا يتصور معنى حقيقي للحرية إلا في نطاق بعض الضوابط التي تضبطها، فلا تنقلب إلى فوضى مدمرة تعود على نفسها وعلى غيرها بالإبطال.فالإسلام لم يأت ليجبر الناس على أن يسيِّروا حياتهم، وينظموا تعاونهم فيما بينهم، وسعيهم في تحصيل ضروراتهم وحاجاتهم، وإقامة مصالحهم ومصالح من هو تحت نظرهم، وحظوظ الجميع الدنيوية، ضمن قوالب تشريعية، وأحكام سلطانية لا يمكنهم الخروج عليها، أو الاجتهاد فيها، وإنما وضع أصولا وطلب المحافظة عليها، وحد حدودًا ودعا إلى عدم الاعتداء عليها، ونشر قيمًا في الناس وطلب مراعاتها وعدم خرقها، وما عداه فقد أعطى فيه للإنسان حريته في السعي والطلب والابتكار والإبداع، ووضع الضوابط والشروط لما يدخل فيه من التصرفات، ما لم تحرم تلك الشروط حلالا، أو تحل حرامًا، أو تؤدي إلى معصية الخالق، بل طلب منه التأمل والنظر والتفكير والتدبير في شؤون نفسه ودنياه وآخرته وما يصلحهما من تصرفاته وأفعاله على الضوابط الشرعية، والأعراف المرعية؛ لأن كل إنسان أدرى بأمور دنياه من غيره، وكل مجتمع أدرى بما يَصلُح له ويُصلِح أمره من غيره، وعلى هذه المعاني فتح له باب الاجتهاد مطلقه ومقيده، وفق ضوابط تحفظ ذاته وكيانه ونظامه ومنظومته الاجتماعية، وتحقق له الغاية السامية من اجتماعه المبنية على التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.ولم تكن حرية التصرفات بجميع أنواعها، مطلقة في أي تشريع سماوي أو غير سماوي، ولا في عرف أي مجتمع كان، بغض النظر عن طبيعة تلك القيود والحدود التي يراها كل تشريع ومجتمع، وكذلك الذرائع المعتبرة عنده من جهة الغلق والفتح.وقد خولت الشريعة لولي الأمر تقييد حرية التصرفات المالية للأشخاص الحقيقيين والاعتباريين، إذا وقع منهم ما يستدعي ذلك، أو إذا كانت أوضاع البلاد الاقتصادية والأمنية والاجتماعية تتطلب نوعًا من تلك التقييدات، أو لما يراه هو من التقييدات الضرورية، من أجل الصالح العام، وكل ذلك في إطار الضوابط المشروعة التي أمرت الشريعة الخلق الالتزام بها وعدم التعدي عليه، لأنه إن وقع ذلك التعدي من أي فرد لم يعد تصرفه هذا في نظر الشريعة تصرفًا يدخل تحت سقف حريته المكفولة له، وإنما تنظر له على أنه تعدى على الحدود المحدودة، وبناء عليه فهي تتعامل معه على أنه سلوك منحرف ومعصية يحاسب عليها.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات