+ -

 كنت أتابع وثائقيا شيقا حول دولة رواندا، التي يمكن أن نطلق عليها (المعجزة الإفريقية)، حيث تعد الآن من أسرع الدول تطورا، وأقل الدول الإفريقية فسادا، بعد حرب إبادة عرقية دائمة عاشتها في تسعينات القرن الماضي، إذ قفزت من قعر الإبادة إلى علياء التنمية في مدة زمنية قصيرة جدا، بالنظر إلى بشاعة تلك الحرب العرقية المدمرة، وقد أكد محررو الوثائقي على أن قبيلتي الهوتو والتوتسي عاشتا في وئام وسلام وتعايش وتعاون لقرون قبل دخول الاستعمار الألماني ثم البلجيكي، ولم يعرفوا الصراع والنزاع إلا بعد أن غشيتهم (الحضارة) الأوربية، ففرقت بينهم، وزرعت بينهم الأحقاد، وتاجرت بدمائهم؛ لتنهب مقدراتهم وثرواتهم!!. وما اشتعال تلك الحرب العرقية المدمرة التي اكتووا بنارها إلا من بذور الفرقة التي بذروها هم ورعاها صنائعهم بعدهم!!.وبعد الوثائقي الذي يتكلم عن التاريخ القريب تحولت مباشرة إلى مشاهدة نشرة الأخبار لأتابع أحداث الراهن، وكان الخبر كارثة، مقتل أكثر من ثلاثمائة سوداني في قتال عرقي بولاية النيل الأزرق!!، مسلمون يتقاتلون فيما بينهم تحت شعارات عرقية!، لا يدفعهم لهذه الجرائم إلا اعتزازهم بعرقيتهم، والتعصب لها، رغم أن السودانيين عاشوا إخوة متحابين قرونا من الزمن، لا يعرفون نزاعا ولا صراعا إلا ما يحصل بين الإخوة بين الفينة والأخرى، فتطفئ ناره روح الأخوة، ويداوي جراحه سماحة الإسلام، حتى حل البريطانيون بوادي النيل، فصارت القبيلة تبطش بأختها، والعرقية تسعى لإبادة العرقية المجاورة لها، كحال الجاهلية الأولى!!.فوجدتني أحدث نفسي: هؤلاء حمير الاستعمار!، هؤلاء حمير الاستعمار!، إنّهم يواصلون عمله بالمجان، ويسعون لتحقيق أهدافه تطوعًا، فهم وكلاؤه وأولياؤه في تطبيق سياسته الشهيرة (فرق تسد)، وإن من كان منهم عالما بذلك متعمدا له، فهو حمار خائن حَركي!، ومن كان منهم جاهلا بحقيقة ما يقوم به غير متعمد للخيانة، فهو حمار غبي أحمق!.إن الاستعمار خبير في صناعة الاستحمار؛ ولهذا استطاع أن يترك وراءه قطعانا كبيرة من الحمير، تحمل أثقال مشروعه في تفانٍ وإخلاص وقوة، وهي مستوفِزة دائمًا تنتظر الإيعاز لتنطلق تدمر بلادها، وتقتل شعبها، وتخوض الحروب تحت شعارات العرقية المقيتة والعصبية المنتنة، فلا نجد بلدا دخله الاستعمار الأوربي الغربي إلا وهو على مِرْجَلٍ من نار العصبية وبركان من شُواظ العرقية، حتى بلاد الإسلام التي يحرّم دينها دعاوى العرق والعصبية والجاهلية، فلا يخلو بلد مسلم من تلك النزغات والنزعات: الترك والكرد في تركيا، والفرس والعرب في إيران، والطاجيك والأوزبك في أفغانستان وطاجكستان وأوزباكستان، والكرد والعرب والتّركمان في العراق وسوريا، والعرب والبربر في الجزائر والمغرب وتونس وليبيا، والعرب والزنوج في موريتانيا ومالي وتشاد... إلخ، وكل هذه الأجناس كانوا إخوانا متحابين، لا يرى طرف منهم لنفسه فضلا على الطرف الآخر بسبب العرق والأجداد، بل كلهم يؤمن بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال دَعوى الجاهلية.. دعوها فإنها مُنْتِنَة» رواه البخاري ومسلم.ولما طاف عليهم طائف الاستعمار النتن قامت حروب بين هؤلاء الإخوة في الدّين والبشرية والوطن، وما تزال تلتهب وتخمد لتلتهب ثم تخمد.. وقد تلتهب بسبب كلمة عرقية عصبية واحدة حمقاء من أحد حمير الاستعمار، على صفحات الجرائد أو على مدرجات الملاعب أو في أزقة الأحياء، فتأتي على الأخضر واليابس من الأناسي والممتلكات، ولا تخمد نارها إلا بجهود جبارة من العقلاء والمخلصين أو من مستعمر الأمس، بعد أن تكون نارها قد أحرقت علاقات إنسانية جليلة بنتها قرون متطاولة، وهدت أركان الأمن المجتمعي. بيد أن حمير الاستعمار لا يتقون الله تعالى، ولا يفكرون بعقولهم، فقد برمجهم المستعمر على الإيمان بالعرق وفقط، وعلى التعصب للعرق وفقط، وعلى التضحية في سبيل العرق وفقط، ورغم نتانة هذه الدعوى الجاهلية والمشروع الاستعماري ما زال هنالك من هو مستعد للتضحية بنفسه وقتل غيره من أجل عرقيته، وحقا لكل داء دواء يُستَطب به إلا الاستحمار أَعْيَا من يداويه!!.إن الصراعات العرقية من أخطر ما يتربص بالدول، وهي المدخل الرئيسي والخلفي للاستعمار العالمي للحفاظ على نفوذه في الدول التي كان يستعمرها بالأمس القريب، ولحماية الحبل السُّري (غير السِّرّي) الذي تواصل من خلاله نهب مقدراتها وثرواتها، ولا يمكن للدول المستعمَرة (العربية والإفريقية والآسيوية) أن تتحرر حقيقة وتنطلق في مسار التنمية والنهوض ما لم تتحرر من مستنقع الأوهام الذي تتخبط فيه، وفي مقدمة هذه الأوهام، وهم العرقية النتنة، والعصبية المقيتة. والجميع يعلم أن الصراعات العرقية تعد من أكبر المهددات للسلم المجتمعي والأمن في أي بلد تثور فيه، وأن نتائجها هي دمار في دمار، دمار مادي ودمار معنوي، ودمار عام لا يسلم منه أحد، وفي التّاريخ القريب قبل البعيد أمثلة ونماذج، ولكن أكثر الناس لا يعقلون، وكل حمير الاستعمار المؤمنين بالعرق وخصوصيته، وتفوق عرق على عرق لا يعقلون ابتداءً وانتهاءً!!.من المفروض أن الدول الإسلامية لا ولن تعرف الصراعات العرقية والقبلية، ولكن الواقع غير ذلك، حيث نجدها من أكثر الدول المهددة بالحروب البينية والانقسامات الداخلية بسبب العرقيات والصراعات بينها، وما ذلك إلا لأنها تنكَّبت صراط الإسلام واتبعت سياسات الاستعمار، بعد أن عشش الاستحمار في عقول كثير من أبنائها وبناتها. وإلا كيف لمسلم أن يكون من دعاة العرقية ووقود لنزاعاتها وهو يقرأ قول الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}؟!، وكيف لمسلم أن يعتقد أن عرقًا خيرٍ من عرق، ويعتز بعرقه ويقاتل دونه وهو يسمع الحديث الشريف: «قد أذهب الله عنكم عُبِّيَّة [أي التّكبّر والتفاخر بالأنساب] الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي. والناس بنو آدم، وآدم من تراب»؟!، والتشريح الطبي أكد أن البشر كلهم سواء داخليا وخارجيا؟!، وكيف لمسلم أن يجعل من تعدد اللغات واللهجات سببًا للصراع النزاع وإثارة الأحقاد، وهو يقرأ قول الله تبارك وتعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}؟!، وكيف لمسلم أن يفتخر ويقاتل بسبب الانتساب العرقي لأقوام من الكافرين والمشركين وربما المجرمين، وهو يرى أن الانتساب إلى أعظم وأشرف نسب لا ينفع صاحبه ما لم يكن مؤمنًا يعمل الصالحات، ويقرأ قول الله عز شأنه في عم رسول الله عليه السلام: {تبت يدا أبي لهب وتب}؟!. ألا إن الإسلام عامل رئيس في تحقيق السلم المجتمعي، وعنصر أساسي في بناء الأمن الفكري والعام في بلادنا، والإلزام بعقائده الصافية وأحكامه السمحة حماية من الاستغلال والتطرف والنزاع، وعلى من ينزعجون من التدين في بلادنا ويحاربونه من حمير الاستعمار (المثقفين) أن يعلموا أنهم بحربهم على التدين يقدمون خدمة جليلة للاستعمار، وتغذية كبيرة للاستحمار.. فهل يفقه حمير الاستعمار؟، وهل ظلمت الحمير حين نسبت هؤلاء إليهم؟.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات