+ -

 للتقوى منزلة عظيمة، أمر الله بها الأنبياء وأوصى بها المرسلين، وهي الميزان الحقيقي الذي يخفض ويرفع في الإسلام، فمن استكمل شروطها وأدى أركانها، أسعده في الدنيا والآخرة. وأما التفاخر بالأحساب، والتعاظم بالأنساب، فهو من عُبِّيَّة الجاهلية، لا يرفع للإسلام راية، ولا يحقق لمن قام به غاية.إن سورة الحجرات بيَّنت قواعد تشريعية عظيمة لصيانة المجتمع من التمزق والتشتت والتفكك والضغائن والأحقاد، ومن تلك القواعد قاعدة تشريعية عظيمة ينبني من خلالها المجتمع، ألا وهي: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فبعد مجموعة من النداءات المتكررة في السورة للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، يأتي النداء العام للإنسانية كلها على اختلاف أجناسها وألوانها وألسنتها، يأتي هذا النداء بهذا المطلع المهيب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، فالتقوى ميزان التفاضل في الإسلام، فلا مجال لرايات زائفة، ولا مجال لعصبيات جاهليةنتنة، فلا مجال لعصبية العرق، ولا لعصبية الأرض، ولا لعصبية الجنس، ولا لعصبية اللون، ولا لعصبية اللغة، فأساس التقوى وضعه القرآن كقاعدة لبناء المجتمع قبل مئات السنين، قبل أن تتغنى الدول الديمقراطية بهذا المبدأ، فكل الموازين إلى زوال، وكل القيم إلى فناء، ويبقى الميزان الحقيقي الذي يخفض ويرفع هو ميزان التقوى: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”، فهذا هو الميزان، وهذا هو المقياس عند المولى سبحانه.خطب عليه الصلاة والسلام الناس يوم فتح مكة فقال: “يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية، وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بَرٌّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هيّن على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، ثم تلا صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. فلا فخر بالأنساب، ولا بالجاه، ولا بالسلطان، يقول جابر: خطبنا رسول الله في أوسط أيام التشريق فقال: “أيها الناس ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود، إلا بالتقوى”.فلواء التقوى الذي رفعه الإسلام ساوى فيه بين بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وحمزة القرشي، ومعاذ الأنصاري، فلا تفاضل إلا بالتقوى، ولذلك تفاخر بهذا النسب سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم، فلقد رفع الإسلام سلمان فارس ووضع الكافر الشريف أبا لهب.فالعلائق والأنساب تنقطع يوم القيامة، يقول المعصوم: “إذا كان يوم القيامة، أمر الله مناديا يقول: إني قد جعلت لكم نسبا، وجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي، أين المتقون؟”.ويقول صلى الله عليه وسلم: “من أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه”. وصدق المولى سبحانه الله إذ يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ}، ينقطع كل نسب إلا نسب التقوى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}.. والله ولي التوفيق.* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات