+ -

 الوصول إلى القمة أمر سهل، وقد يكون صعبا نوعًا ما، لكن الاحتفاظ بالقمة أمر أصعب، والعبد إذا ارتقى وفتح له باب من الخيرات، فهذا فتح من الله، والأمر الأصعب من ذلك هو الثبات على هذا الخير، ولهذا رغب الله سبحانه وتعالى أهل الطاعات بالثبات على الصالحات والعبادات حتى الممات، وعاب على أقوام تركوا العبادات خلفهم ظهريًا بعدما فتح الله عليهم بها، قال تعالى: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلًا بينكم}، فقد عاب الله على من نسجت غزلها بقوة وبحسن وبشدة، ثم بعد هذا التعب والعناء جعلته هباء منثورًا، وهذا وصف دقيق لمن يجتهد في العبادة ثم يتوانى ويتقاعس.كما نعى القرآن أيضًا على أقوام سبقونا باجتهادهم في العبادة ثم بعد ذلك ولوها ظهريًا، قال تعالى: {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}، فبعدما اجتهدوا في الطاعات تركوها وتوانوا وتقاعسوا عن المسارعة في الخيرات فقست قلوبهم، قال تعالى منكرا على النصارى: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله}، (إلا) هنا كما يقول علماء البلاغة: استثناء منقطع، والمعنى لكن ابتغاء، فهم ما فعلوا ذلك إلا مسارعة واجتهادا في عبادة الله، قال:{إلا ابتغاء رضوان الله}، فتقاعسوا عن هذه الطاعات، قال تعالى: {فما رعوها حق رعايتها}.والمعصوم عليه الصلاة والسلام أنكر على أناس اجتهدوا في الطاعات ثم تقاعسوا، فقد قال لعبد الله بن عمرو: “لا تكن كفلان، كان يقوم من الليل ثم تركه”، وهكذا الحال لمن حفظ كتاب ربه ثم قصر في المثابرة والمراجعة.وها هي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها تصف عبادة النبي صلّى الله عليه وسلم بقولها: “كان النبي صلّى الله عليه وسلم يحرص على الطاعة، فإن فاته من حزبه شيء، أي: من قيام الليل أو قراءة القرآن، صلى في النهار ثنتي عشرة ركعة”، وذلك حتى يثبت على الخير فلا يفوته، وكان من دأبه أنه إذا ابتدأ طاعة لا يتركها، حتى إنه شغله ذات مرة تقسيم الصدقة عن سنة الظهر فأقبل عليه العصر، فصلى الفرض ثم صلى بعده سنة الظهر قضاء حتى لا يترك هذه العبادة التي ابتدأها، ولذلك يرى بعض أهل العلم أن هذا الفعل سنة، والصحيح أنه خصوصية للمعصوم صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه كان من دأبه صلّى الله عليه وسلم عدم ترك طاعة ابتدأها حتى يموت، وهذا دأب الصالحين.وحتى يثبت المكلف لا بد من اتخاذه مجموعة من الأسباب تيسر له الثبات على الأعمال الصالحة، منها توحيد الباري عز وجل، فالشرك به سبحانه من محبطات الأعمال والعياذ بالله، وتجنبه من الأسباب الميسرة للثبات على الأعمال الصالحة. ومن ذلك الرياء، فهو من الأسباب الصارفة عن الثبات، قال صلّى الله عليه وسلم: “من راءى راءى الله به، ومن سمَّع سمَّع الله به” أي: فضحه إلى يوم القيامة، ولم يثبته على طاعة؛ لأنه لم يفعلها لوجه الله تعالى، فالرياء من محبطات الأعمال، ومن عوائق الثبات على الأعمال.ويقابل ذلك الإخلاص، قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، وفي الصحيح في الحديث المشهور على الألسنة: “إنما الأعمال بالنيات”، وفي الصحيح أيضًا: “قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه”.ومن الأسباب كذلك القصد في الطاعات؛ لأن الهمة يمكن أن تأتي للعبد في ليلة من الليالي فيقوم، ثم يجافي القيام بعد ذلك شهرًا، فهذا ليس بمحمود، بل لو قام بركعة واحدة كل ليلة ولو لعشر دقائق، لكان أفضل له، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلم: “سددوا وقاربوا، وعليكم بشيء من الدلجة”. أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة.كذلك من الأسباب التي تساعد العبد على الثبات الدعاء، فقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: “الدعاء هو العبادة”، فالعبد بتضرعه وتذلُّله لربه يثبته على الجادة: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}. والله ولي كل توفيق.* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات