المجتمع الغربي ومفهوم الحرية.. التحدي للأديان والقيم الأخلاقية

+ -

إن مفهوم حرية الرأي في المجتمع الغربي يختلف عنه في المجتمع الإسلامي، وذلك راجع للاختلاف في المنطلقات الفكرية عند المجتمعين، فالغرب يُنظَر للحرية على أنها من أعلى القيم التي تأسست عليها حضارته، إلى جانب قيمتي العدل والمساواة كما هو معلوم ومشهور من شعارات الثورة الفرنسية، ويسود اعتقاد واسع وراسخ لدى المثقفين الغربيين أن حرية الرأي في حضارتهم لا تضاهيها فيها أية حضارة أخرى، فكثيرًا ما يلجؤون لمقارنتها بحرية الرأي في الإسلام، ليخلصوا إلى نتيجة يقررون فيها تفوق حضارتهم على ما جاء به الإسلام، في هذا الباب.ومن خلال تأملنا في تاريخ فكرة الحرية في الحضارة الغربية وعلى رأسها حرية الرأي، نجد أن الفكر اليوناني كان مثقلًا بالعبودية للآلهة المصنوعة والمزعومة، وهو الأمر الذي كان له أثر في رسوخ فكرة العبودية الاجتماعية المتمثلة في التشريع للرق على سبيل استحسانه ضرورة من ضرورات الحياة الجماعية، فالاسترقاق الذي هو النقيض الأكبر للحرية كان جزءًا ثابتًا من عناصر الفلسفة السياسية والاجتماعية في الفكر اليوناني، بل قد كان محلّ استدلال على حتميته وصلاحه من قِبل كبار الفلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو، فقد اعتبر كل منهما الرق نظاما طبيعيا في حياة المجتمع، إذ أنه في مشاهد الطبيعة كلها هناك تقابل بين الأعلى والأدنى، وأن الأدنى مسخر لخدمة الأعلى، وهو ما ينبغي أن يصبح ساريا على الإنسان في تنظيمه الاجتماعي، فتكون طبقة للعبيد تخدم طبقة الأحرار، وهما طبقتان محددتان على سبيل الطبع الذي لا يتغير.ومما لا يخفى على أحد أن الشعوب الأوربية في فترة القرون الوسطى كانت تعاني من استبداد رهيب، وسيف مسلط على رقاب أهلها من قبل جهتين، لا تترددان في قهر الشعوب، وسلب حريتها وهما: الكنيسة بقهرها، والحكام بسلبهم الحريات العامة السياسية والاجتماعية، وتحت هذا الضغط الشديد بدأت الشعوب الأوروبية تتنسم طلائع الأنوار القادمة إليها من الحضارة الإسلامية، وكان ذلك مستفزًا لها كي تنهض مطالبة بحريتها، فكان عليها أن تواجه هذين المصدرين من مصادر الاستبداد بثورات متتالية وصراعات متعاقبة كي تنال حريتها، وكان الصراع عنيفا داميًا في كثير من مراحله، وهو ما لخصته العبارة الشهيرة التي كان الناس يتناقلونها في خضم المواجهة، وهي “اشنقوا آخر حاكم بأمعاء آخر قسيس”.وبناء عليه؛ فإن مقولة الحرية في مبدئها وتطوراتها في ثقافة الغرب كانت مقولة وضعية لا صلة لها بالدين، وإنما هي من محض التقرير العقلي، ومصدر الإلزام فيها لا علاقة له بالمقدس الديني، وإنما هو مصدر فلسفي اجتماعي، وربما كان أخلاقيا أحيانا.فمن هذه المنطلقات المتفلتة من قبضة الدين، ولوازم القيم الأخلاقية، والآداب العامة انبثقت القوانين المنظمة لقواعد الحرية في العالم الغربي، فلذلك نراها تسقط كل اعتبار ديني وأخلاقي قد يقف في طريق حرية الإنسان، ولذلك نرى منهم الإساءات المتكررة للإسلام ومقدساته ورموزه، وكل ما يرتبط بمشاعر المسلمين دون رادع لهم ولا زاجر، وكل ذلك يحصل تحت حماية القانون وباسم حرية الرأي المكفولة قانونا لكل إنسان.فتمام حرية الرأي في الغرب هي أن يترك الفرد حرًا طليقا في أقواله وأفعاله دون أن يتدخل في ممارسة هذه الحرية أحد، كائنا من كان ومهما كانت صفته، وسواء أكان هذا التدخل باسم الدين، أو باسم القيم الأخلاقية، أو باسم المثل الحضارية، شعارهم في ذلك، هو أن يتمتع الفرد باتخاذ كل قرار يراه مناسبا له ولمصلحته الخاصة؛ لأنه كلما قللنا من عناصر التقييد للحرية الشخصية في القول والفعل اتسع مجالها وكبر نطاقها.ولكن اختلف دعاة هذه الحرية فيما بينهم حول مدى وسعة المجال الذي يتمتع فيه الفرد بهذه الحرية، وذلك لأن الغايات البشرية ونشاطات الإنسان لا ينسجم بعضها مع بعض انسجامًا تلقائيًا. فلابد أن تكون هناك قيود وحدود لا يتعداها الممارس لحريته. ثم اختلف أصحاب هذه النظرية اختلافًا كبيرًا في نوعية هذه الحدود وأين توضع ومن الذي يضعها وعلى أي أساس يضعها. هذا مفهوم حرية الرأي في المجتمع الغربي في قول وجيز، ليس على الفهم بعزيز.. والله الموفق لما فيه الخير والصواب.*مدير تحرير مجلة “آفاق الثّقافة والتّراث”

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات