آخر الأخبار

لا شفافية دون ضمانات حقيقية للمبلغين

+ -

أصبح الفساد أكثر من أي وقت مضى ينخر اقتصاد الدولة ويعشش في غالبية مؤسساتها، ما دفع الجزائر إلى استحداث آليات وهيئات قانونية تمليها الحاجة للمحافظة على التزاماتها الدولية وكذا محاربة الظاهرة والتقليل من تبعاتها، ويعتبر التبليغ عن الفساد من أهم آليات مكافحة الظاهرة، لكن هذه الثقافة غائبة في الجزائر لأسباب يربطها خبراء بمدى كفاية الضمانات القانونية اللازمة لحمايتهم.

وأوضح المحامي هاشم ساسي وجود صيغتين لحماية المبلغين عن الفساد في القوانين الوطنية وذلك حسب الصفة، وأكد أن تعديل قانون الإجراءات الجزائية في سنة 2015 ضمن في الفصل السادس من الباب الثاني المتعلق بالتحقيقات وبالتحديد في المادة 65 مكرر 19 وما بعدها من الضمانات المكفولة لفئة الشهود والخبراء والضحايا بدرجة أولى.

وقال المحامي في اتصال مع "الخبر": "إن هذه الضمانات تتعلق بإخفاء المعلومات المتعلقة بهويتهم، وضع رقم هاتفي خاص تحت تصرفهم، تمكينهم من أوقات اتصال مع مصالح الأمن، ضمان حماية جسدية لهم مع إمكانية توسيعها لأفراد عائلاتهم، وضع أجهزة تقنية وقائية بمساكنهم، تسجيل المكالمات الهاتفية التي يجرونها أو يتلقونها بموافقتهم الصريحة، تغيير مكان إقامتهم، منح مساعدة مالية أو اجتماعية لهم، وضعهم إن تعلق الأمر بسجناء في جناح خاص لحمايتهم، إضافة إلى عدة مواد تتحدث عن حماية المبلغين".

لكن الإشكال- حسب المحامي- يتعلق بكون هذه المواد القانونية لا تتحدث عن صفة المبلغ عن الفساد، رغم أنه يمكن القول إن المبلغ يمكن أن يتحول لشاهد في مرحلة ما ويستفيد من نفس الحماية المقررة للشهود والخبراء والضحايا.

أما الضمانة الثانية فقد ضمنها قانون مكافحة الفساد رقم 06-01 وذلك في المادة 49 التي تؤكد على أن يستفيد من العذر المعفي من العقوبة كل من شارك في جريمة أو أكثر من الجرائم المنصوص عليها في القانون وقام قبل إجراءات المتابعة بإبلاغ السلطات المعنية عن الجريمة وساعد في كشف مرتكبيها، وهو ما يكفل الحماية القانونية للمشارك في الجريمة في حال صحوة ضمير، كما يمكن أن يستفيد من نصف العقوبة كل مشارك أبلغ الجهات المعنية بالجريمة بعد إجراءات الدعوى.

كما يرى المحامي أن هذه الضمانات قد تساهم في تشجيع ودفع المواطنين وحتى مرتكبي جرائم الفساد على التبليغ عنها.

    

الحماية القانونية غير كافية

 

اعتبر المحامي محمد بودينة أن "أهم ضمانة لحماية المبلغين عن الفساد أزالها رئيس الجمهورية بتعليمة شفوية تعلقت برفض الأخذ بالرسائل المجهولة، رغم أنها أهم وأحسن طريقة لدفع المواطنين للكشف عن الجرائم والتبليغ عنها، وفي غيابها يجد المبلغ نفسه غير محمي لأنه مضطر للكشف عن هويته ما يضعه أمام صعوبات أهمها الخوف والتهديد بالانتقام".

وبالمقابل، قال المحامي في اتصال مع "الخبر" إنه لا يوجد مواد كافية لحماية المبلغين عن الفساد، وأوضح أن "الجزائر وقعت على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة تنص المادة 33 منها على ضرورة إدراج كل دولة التدابير المناسبة لتوفير الحماية وأي معاملة غير سليمة ضد المبلغين عن الجرائم، وبالتالي بعد المصادقة كان من المفروض موائمة هذه الاتفاقية وتجسيدها في القانون الداخلي، لكننا في الواقع نلمسها نجدها في القانون المتعلق بالوقاية ومكافحة من الفساد وبالتحديد المادة 45 منه التي تؤكد على معاقبة كل شخص لجأ إلى الانتقام والترهيب والتهديد بأي طريقة ضد الشهود والمبلغين وأفراد عائلتهم". وتابع "لا نقول إنها ليست آلية كافية لكن كان يجب أن يترك معها خيار التبليغ عبر الرسائل المجهولة مع التعامل معها بحذر فإذا وجد التحقيق أن الرسالة غير صحيحة يتم إهمالها، أما إذا كانت تحمل وقائع صحيحة يتعامل معها بجدية وتحرك الدعوى ضد الأشخاص المعنيين".

فيما تساءل المحامي "ما الفائدة من تجاهل الرسائل المجهولة مادام هناك أمور سابقة لتحريك الدعوة العمومية عبر البحث والتحري من قبل الضبطية القضائية وسماع الأطراف وجمع الأدلة قبل تسليمها لوكيل الجمهورية الذي يملك السلطة التقديرية في تحديد ما إذا كانت المعطيات تشكل جريمة أم لا، ومنه تقرير إرسال الملف إلى القضاء أو لا".

وأكد المتحدث أن "الرسائل المجهولة مفيدة في القضاء لكن بحذر على أن يكون قبل توجيه الاتهام عمل جدي للوقوف على حقيقة الرسالة وما تحمله من معلومات" واعتبر أن "سحب هذه الرسائل المجهولة تجعل المبلغ متخوفا وبالتالي قد تلغي ما يقارب نسبة 80 في المائة من التبليغات عن الفساد".

 

ضمان حماية سرية المبلغ لدى المتهم

 

في ظل عدم الاعتداد بالرسائل المجهولة يضطر المبلغين عن الفساد لكشف هويتهم لدى مصالح الأمن والنيابة العامة، ويؤكد المحامي هاشم ساسي على ضرورة ضمان سرية هوية المبلغ عن الفساد لدى المتهم، حيث إن القانون يعاقب على تقديم هذه المعلومات التي تعرض حياة المبلغ للخطر ورغم ذلك يبقى احتمال كشف هوية المبلغ مطروحا، ما يشكل خطرا على حياته.

ويرى هاشم ساسي أن هناك إشكالا في الواقع بالجمع بين القانون وتطبيق تعليمة رئيس الجمهورية التي فرضتها الظروف السياسية بحكم حالة الانسداد التي عاشتها البلاد، حيث جمد نشاط الإدارات بسبب الخوف من اتخاذ أي إجراءات تجعل المسؤول محل متابعة بحكم رسائل مجهولة، قد تكون في بعض الأحيان كيدية.

وكان رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، قد منع في كلمته الافتتاحية التي ألقاها في اللقاء الثاني للحكومة مع الولاة الاعتداد بالرسائل المجهولة في الملاحقات القضائية.

كما أشار رئيس الجمهورية إلى أن تقارير واردة إلى رئاسة الجمهورية، أبرزت أن عددا من إطارات الدولة والمسؤولين على مختلف المستويات تمت متابعتهم قضائيا بناء على مجرد رسائل مجهولة، غالبا ما كانت عارية من الصحة، تم توجيهها إلى مختلف الأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة.

وقد أدى ذلك إلى حرمان عدد من هؤلاء الإطارات من حريتهم وخلف حالة من الشلل في نشاطات الإدارات والمؤسسات العمومية بسبب الخوف والخشية من الوقوع تحت طائلة المتابعة بناء على مجرد رسائل مجهولة حتى أن العديد من المسؤولين الآخرين أصبحوا يقتصرون على الحد الأدنى من التزاماتهم ويمتنعون عن أي مبادرة، مما أسفر عن تأجيل معالجة ملفات هامة، تكتسي أحيانا الطابع الاستعجالي، إلى تواريخ لاحقة، متسببة في إلحاق أضرار بليغة بسير هذه المؤسسات.

ومن جانبه، يؤكد المحامي عمر شيخ أن البلاغات الكيدية أو الوشاية الكاذبة تضبطها جنحة التصريح الكاذب التي يقصد بها الإدلاء بمعلومات خاطئة أو غير حقيقية، قد تتسبب في عقاب الموشى به، وأوضح في اتصال مع "الخبر" أنه في حال ثبت عدم صحة الواقعة، فالواشي يستحق تلقي عقوبة الوشاية الكاذبة في القانون بتهمة البلاغ الكاذب.

 

"الاستفادة من الأنظمة المقارنة"

 

وفي هذا السياق، يرى المحامي هاشم ساسي أنه يمكن الاستفادة من تجارب الدول الأخرى وإدماج الآليات التي تضمن حماية أكبر للمبلغين عن الفساد، ففي القوانين المقارنة وصلت بعض الدول على سبيل المثال إلى درجة إمكانية تغيير بلد إقامة الشاهد أو المبلغ عن الفساد في القضايا الكبرى لحماية حياته، وهو ما يمكن إدراجه في القانون الوطني.

وقال المحامي إن "تقنية التحاضر عن بعد لا يتم العمل بها في القضاء الجزائري إلا عندما يتعلق الأمر بمتهمين متواجدين في مؤسسات عقابية بعيدة عن مقر الجهة القضائية المعنية"، وبحكم أنها تقنية موجودة، يرى المحامي أنه يمكن استعمالها مع قضايا الفساد كما يحدث في دول أخرى، حيث إنه يمكن من خلالها ضمان حضور الشاهد ووجاهية المحاكمة، وفي نفس الوقت يسمح الفيديو بمنع المتهم من التعرف على صوت وشكل المبلغ عنه.

ومن بين الضمانات التي يمكن إدراجها في قانون حماية المبلغ عن الفساد -حسب المتحدث- حصر شروط الاستفادة من العذر المعفي من العقوبة بالنسبة للمشاركين في الفساد في شرط واحد يتعلق بالتبليغ عن الجريمة دون إلزامهم بذكر بقية الفاعلين، على أن تواصل الضبطية القضائية مهامها في كشف حيثيات الجريمة.

وتحتاج مكافحة الفساد وحماية المبلغين عنه إلى إرادة سياسية حقيقية برزت بعض من ملامحها في الجزائر منذ بداية موجة المتابعات التي مست مسؤولين ورجال الأعمال خلال السنوات الأخيرة.

ويعتبر المحامي هاشم ساسي أن قضايا الفساد التي مرت على القضاء الجزائري منذ الحراك الشعبي منحة وسط محنة للجهاز القانوني والقضائي الذي يعد حديث العهد والتجربة، حيث يمكن أن تشكل المحاكمات مادة لتطوير المنظومة القانونية في حال الاستناد إليها لدراسة مدى جدوى وفعالية القوانين والآليات الموضوعة لمحاربة الفساد ولحماية المبلغين عنه وكذا تحفيز ثقافة التبليغ عن الفساد.