الدراما الجزائرية بخطى ثابتة نحو التأسيس

+ -

عرف الموسم الرمضاني لهذا العام انتعاشة كبيرة، حيث شكلت الدراما الجزائرية والعربية الاستثناء، وجاء إنتاج رمضان 2023 وفيرا، وشغلت الدراما الجزائرية لأول مرة في تاريخها مواقع التواصل الاجتماعي الجزائري والعربي وفتحت الباب واسعا لطرح تساؤلات وإشكاليات حول هذه الدراما التي تعتبر فتية مقارنة بالدراما المصرية أو السورية، لكنها استطاعت في ظرف وجيز أن تقارع الكبار بعد أن كسر مسلسل "الدامة" الجزائري حاجز العشرة ملايين مشاهدة لحلقة من حلقاته على موقع اليوتيوب بل تجاوز الـ100 مليون مشاهدة لمجموع حلقاته وشغل الجزائر والوطن العربي بالجدل الذي خلفه. وكعادتها، تنوعت الدراما العربية "مصرية وسورية وخليجية.."، وقدمت الكثير والجديد لهذا الموسم.

يقال إن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، ويبدو أن الدراما الجزائرية ما تزال في خطوتها الأولى لكنها تسير في ثبات، في انتظار مرحلة جديدة تتسم بالنضج، خاصة في ظل تنوع الأعمال وتعددها (حوالي 10 أعمال تم إنتاجها رمضان 2023)، مع استمرار المنافسة التي تعتبر عاملا أساسيا لتحسين جودة الأعمال، والتي تفرض على أصحاب العمل والمنتجين تقديم الأفضل. ويبقى على الدراما أن تستغل شغف ولهفة الجزائريين لكل ما هو جزائري، بتقديم أعمال ذات جودة عالية من حيث الإخراج والسيناريو والكاستينغ.

 

"الدامة".. الاستثناء الجزائري

 

استطاع مسلسل "الدامة" أن يرفع من سقف التوقعات لدى المشاهد الجزائري، الذي أصبح يطالب بأعمال ذات نوعية إخراجية ممتازة وذات سيناريو يعكس الواقع الجزائري ويغوص في همومه ويبرز خصوصيته بكل تفاصيلها الصغيرة، من اللبس إلى الأكل إلى اللهجة وطريقة الكلام وحتى الأمثال الشعبية التي كانت تطلقها "صليحة شقلالة" (تمثيل عايدة عبابسة)، وأدى هذا التميز الذي استقبله الجزائري بشغف كبير، وهو الذي حرم لسنوات لكل ما يرمز له ويمثله على مستوى الصورة البصرية، فتماهى مع شخصياته واندمج مع أحداثه. ولم يكتف "الدامة" بجلب عدد كبير من المشاهدات على المستوى المحلي بل وعلى المستوى العربي، الذي اكتشف لأول مرة دراما جزائرية خالصة مختلفة عنه. وفتح "الدامة" باب النقاش واسعا حول أهم الإشكاليات التي تواجه الدراما وعلاقتها بالواقع، وبين منتقد لما قدمه المسلسل من أحداث تلامس الواقع الجزائري ومدافع عنه باعتباره جزءا من الحقيقة الجزائرية، أثار المسلسل الجدل الذي تجاوز مواقع التواصل الاجتماعي إلى قبة البرلمان الجزائري. الجدل الذي حسم لصالح مسلسل "الدامة" الذي أصبح استثناء جزائريا، بعد أن رشح لجائزة النقاد العرب بعد تجاوزه لكثير من الأعمال العربية. ويعتبر "الدامة" دراما حقيقية تلامس أرض الجمهور الذي ينتظر الخروج من الإطار الزمني لرمضان، لتقديم مسلسلات غير موسمية، تبث طوال السنة، وهذا تحدٍ آخر لتجديد الدماء، والموضوعات، والأسلوب.

 

"البطحة" و"11 11".. أعمال تستحق الثناء

 

لا يتوقف النجاح الذي حققته الدراما الجزائرية عند مسلسل "الدامة"، فقد حقق المسلسل الكوميدي "البطحة" الإجماع حول جمالية وجودة ما قدمه على المستوى الكوميدي والأفكار التي طرحها بطريقة كوميدية مهضومة، إذ صنف المسلسل كأحسن عمل كوميدي لهذا الموسم، بإجماع الجمهور المشاهد وآراء المتابعين والنقاد على مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت منبرا مهما للحكم على العمل.

كما حقق مسلسل "11 11" الرواج والقبول لدى المشاهد الجزائري الذي اكتشف قدرة الكاستينغ الجزائري على تجسيد كل الأدوار وبراعة كتاب السيناريو في وضع سيناريوهات بوليسية تنافس السيناريوهات العربية، وقد بلغت عدد مشاهدات المسلسل أكثر من مليون مشاهدة للحلقة الواحدة، ويأتي في المرتبة الثالثة بعد مسلسل "البطحة" الكوميدي ومسلسل "الدامة". ويبقى مستقبل الدراما الجزائرية بالتأكيد مستقبلا واعدا مع الجيل الجديد من المؤلفين والمخرجين والممثلين، وما يلفت الانتباه هو وجود وجوه سينمائية ووجوه مسرحية في الدراما أعطت لمسة وصبغة جديدة على الدراما الجزائرية وقفزت بها خطوات نحو الأفضل.

 

"الدامة".. الشجرة التي تغطي الغابة

 

لا يمكن أن نودّع الموسم الدرامي الرمضاني دون الوقوف على حقيقة أن نجاح مسلسل "الدامة" لا يعني أنه منزه عن الخطأ وبعيدا عن النقد، فقد عرفت حلقاته الأخيرة نوعا من التسرع والبتر في الأحداث وعدم التناسق بينها، وكان العمل كتب بروّية في بدايته مع تكثيف كبير واشتغال جاد على الأحداث والشخصيات، بينما جاءت الحلقات الباقية كتحصيل حاصل للنجاح الذي حققته الحلقات الأولى، فلم يتم الاشتغال عليها بروّية، فجاءت مهلهلة من حيث البناء الدرامي وترابط الأحداث وفراغ الحوار، ولم يسلم من ذلك الحلقة الأخيرة التي خيّبت آمال الكثير من المشاهدين. وتقع الأعمال الجزائرية على العموم في إشكالية النهاية أو الاستمرارية في نفس الريتم والنسق التصاعدي للعمل من ناحية البناء الدرامي وتصاعد حدة الصراع بين الشخصيات وصولا إلى النهاية المنطقية للعمل، ويرجع الكثير من النقاد ذلك إلى التسرع في الكتابة وفي الإنجاز وعدم إعطاء للسيناريست دوره الحقيقي، وهو سبب سقوط بعض الأعمال الرمضانية في حلقات مفرغة تدور فيها، فتمطط الحلقات على حساب جودة العمل ومنطق الأحداث.

 

الأحياء الشعبية تكتب تاريخ الدراما الجزائرية

 

لا يمكن أن تصل للعالمية إن كنت رافضا متجاهلا محليتك بكل مكوناتها الهوياتية والثقافية والتراثية والاجتماعية، وقد أدركت الأعمال الجزائرية التي توجها الجمهور الجزائري على عرش قلبه هذا الإشكال وحققت رواجها بمحليتها الموغلة في جزائريتها، فمسلسل "الدامة" الذي تنطلق أحداثه من أعرق الأحياء الشعبية "باب الواد" بالعاصمة وبلهجتها العاصمية وعادات سكانها وهمومهم ومشاكلهم، استطاع أن يوصل صوت الجزائر وصورتها في ظرف وجيز إلى أبعد الحدود، والكل أصبح يبحث عن فهم اللهجة الجزائرية ومفرداتها وطريقة تفكير الجزائري الخاصة جدا، وكيف يسير المجتمع والعلاقات المترابطة والمتشابكة داخله. كما حقق المسلسل الكوميدي "البطحة" الرواج بمحلية حواره وأجوائه وفضائه المكاني وإن كان متخيّلا، لكنه عكس حقيقة جزء من فئات الشعب المهمّشة، والتي تطمح لمستقبل أفضل وتسعى لتغيير وضعها الاجتماعي البائس إلى آفاق أجمل وأرحب. وعلى الدراما الجزائرية أن تستفيد من الدراما السورية التي لم تبن مجدها على أنقاض أي تقليد، بل أسست لنفسها مسارا مغايرا لما كان موجودا فاستحقت مكانة لها مع الكبار، وعلى الدراما الجزائر أن تسير بهذا المنطلق وتؤسس لنفسها مسارا مختلفا على ما هو موجود عربيا من حيث الأفكار والتيمات المعالجة والإطار الدرامي والحوار وفلسفة الحوار، ومنطق الحوار الذي لا يجب أن لا يضل أو يخرج أو يتيه عن جزائريته وخصوصيته الجزائرية.

 

الدراما قوة ناعمة على الدولة استغلالها

 

لم تعد الدراما مجرد مسلسلات للتسلية والترفيه فقط في شهر رمضان أو طيلة السنة، بل هي قوة ناعمة أصبحت تستقطب كبرى شركات الإعلانات، وهي تعبّر عن مجتمع ورؤاه وسياسة بلاده وتعكس تاريخه وهويته البصرية، وعلى الدولة أن تدرك ذلك وتستثمر في هذا الجانب، وخير دليل على ذلك نجاح مسلسل "الدامة" الذي يعوّض عن الملايين من الأموال التي قد تصرف للترويج لصورة الجزائر، فمسلسل واحد قام بما لم تستطع القيام به الكثير من الهيئات، كما أن ذلك يجبر الدولة على التفكير في وضع سياسة على المدى البعيد مثل ما فعلت مصر في تأسيس لشركات إنتاج وطنية للأعمال الدرامية لا تعكس فقط الواقع الجزائري بل أيضا تقدم النموذج الإيجابي للجزائر، فالجزائر ليست صراعات فقط ومخدرات، فالأحياء الشعبية أيضا هي قيم وأخلاق ومبادئ وتضامن وتكافل اجتماعي ووعي وطني وتاريخ مجيد وطويل من النضال، وهذا لا يعني قتل وخنق المسلسلات التي تخرج عن هذا الإطار بل تشجيعها، لأنها أيضا تعبّر عن جزء من الواقع الذي يعيشه الشعب، وما الدراما إلا نقل للواقع بطريقة فنية دون مبالغة في جانبي المعادلة بين الإيجابي والسلبي.

 

الدراما العربية.. قصص الصراع بين الخير والشر تبقى المسيطرة

 

عرفت الدراما العربية هذا العام عرض عدد كبير من الأعمال تنوّعت مواضيعها وتعدّدت أبطالها، حيث انفردت الدراما المصرية بالصدارة بعرض أكثر من 30 عملا، عالجت موضوعات وقضايا متنوعة وطنية وتاريخية واجتماعية ودينية وكوميدية. وشهدت الدراما الرمضانية هذا العام موضوعات ذات أهمية للمجتمع، مثل قضايا المرأة والأحوال الشخصية والتعامل مع ملف الإدمان والتنمر والتوعية بأساسيات حقوق الإنسان، وغيرها.. ففي الدراما الوطنية مثلا، معركة الانتصار على الإرهاب ومواجهة مصر لأوقات عصيبة مثل مسلسل "الكتيبة 101"، بينما تسرد الدراما التاريخية فترة الحملة الفرنسية على مصر وصورا أخرى من المقاومة في مسلسل "سرة الباتع"، مع الإشارة إلى أن الدراما الرمضانية المصرية هذا العام تشمل تاريخ مصر ورموزها الوطنية في مجالات الحياة المختلفة. كما جاءت المسلسلات ذات الطابع الاجتماعي في مقدمة الأعمال التي جذبت الجمهور وخلقت رأيا عاما حولها، وهي تعرض نماذج من الفساد والبلطجة وصراع الخير والشر، وأكثر هذه الأعمال تأثيرا على الجمهور المصري مسلسل "تحت الوصاية" الذي حصد أكبر عدد من المشاهدات وخلق حالة جدل وأخذ ورد في الشارع المصري، بعد تعرّضه لقضية الوصاية على الأيتام من قبل أمهم، والتي تأمل عديد الأطراف أن يعاد النظر في قوانينها، كما تعود الدراما الدينية في إطار تقديم الخطاب الديني من حياة الإمام الشافعي.

وشهدت الدراما السورية في الموسم الجاري منافسة شديدة على مختلف الأصعدة، ومع تقدم أحداث المسلسلات وقرب انتهاء عروض الحلقات، بدت معالم الشخصيات واضحة، وبدأ الجمهور ينحاز إلى من يراه الأفضل كلّ حسب رأيه. وتضمنت العديد من المسلسلات التي تحمل صراعات مختلفة شخصيات تمثّل الشر والقسوة والجبروت، قدّمها عدد من النجوم كلّ حسب ما يراه مناسباً للشخصية التي يمثّلها. وتميّزت الدراما السورية بكثير من السياسة وقليل من المواضيع ذات الطابع الرومانسي عكس السنوات الماضية، مثل مسلسل "الزند" بطولة تيم حسن أو مسلسل "مربى عز" كذلك، بينما لم تغب الأعمال التي تتعرّض للبيئة الشامية فجاء الجزء 13 من مسلسل باب الحارة، بالإضافة إلى مسلسل "حارة القبة" والأكثر انتشارا وتأثيرا مسلسل "زقاق الجن" الذي عرف متابعة كبيرة من قبل الجمهور العربي.

 

كلمات دلالية: