+ -

 عنوان المقال أَثَرٌ عن حذيفة رضي الله عنه، تتمته: لمّا أسلم عمر كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربًا، فلما قتل كان الإسلام كالرجل المدبر لا يزداد إلا بُعدًا، فالفاروق ارتبط اسمه باسم نبيه صلى الله عليه وسلم وصدّيق الأمة أبي بكر رضي الله عنه في أحداث كثيرة، يقول علي رضي الله عنه: كنت أكثر ما أسمع رسول الله يقول: “جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر”، إسلامه فرَّق الله به بين الحق والباطل، فحظي بشرف التسمية بالفاروق، جعل الله الحق على لسانه وقلبه، فقد وافق القرآنُ رأيَ عمر في غير ما مواضع.

عمر مع رجاحة عقله لم يستغن عن توفيق الله، فقد أُثر عنه قوله: “اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه”. ومعالم النجاح في شخصيته أكثر من أن تحصى، كيف لا وهو الوقاف عند حدود ربه، فقد دخل عليه أعرابي فقال له: إنك لا تعطينا الجَزْل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ به، فقال بعض من في المجلس: يا أمير المؤمنين {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، فوالله ما جاوزها. ومن معالم النجاح في شخصيته محاسبته لنفسه، وقد أثر عنه قوله: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني”.
عمر رغم ما قدّم في سبيل دينه، كان يخاف على نفسه النفاق، فلطالما قصد حذيفة صاحب سِرِّ رسول الله قائلا: “أسألك بالله هل يعدّني رسول الله ضمن المنافقين”؟.

ومن معالم النجاح في شخصية عمر تعظيمه للتوحيد ونبذه للشرك، ومن هنا كان يخاطب الحجر الأسود قائلا: “والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك”. ومن أعظم ما ربى الحبيب عليه الصلاة والسلام أصحابه تعلّقهم بالله، فقد كان خالد بن الوليد رضي الله قائدا مغوارا لم يهزم قط، فتعلق الناس بشخصه وفتنوا به، فعمد عمر فعزله وعيّن أبا عبيدة بن الجراح، فسمع وأطاع، وتحوّل إلى جندي تحت إمرة أبي عبيدة.

ولا نفارق سيرة ابن الخطاب العطرة دون التوقف عند عدله الذي كان سمة ظاهرة في شخصيته، ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في (صفة الصفوة) عن ابن عمر قال: قدمت رفقة من التجار فنزلوا المصلى، فقال عمر لعبد الرحمن: هل لك أن تحرسهم الليلة من السراق؟ فبات يحرسهم ويصلي ما كتب الله له، فسمع عمر بكاء صبي فتوجّه نحوه فقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان من آخر الليل سمع بكاءه فأتى أمه فقال لها: ويحك، ما لي أرى ابنك لا يقرّ منذ ليلة؟ قالت: يا عبد الله، قد أبرمتني منذ الليلة إني أريغه عن الفطام فيأبى، قال: ولِمَ؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطم، قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهرا، قال: ويحك لا تعجليه، فصلّى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سَلّم قال: يا بؤسا لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين، ثم أمر مناديًا فنادى أن لا تعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق أن يفرض لكل مولود في الإسلام.

وأنصع الصور في عدل عمر أن رجلا مصريًا قدم عليه فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، لقد سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فضربني وقال: أنا ابن الأكرمين، فأمر عمر بقدوم عمرو بن العاص مع ولده، وقال للمصري: خذ السوط واضرب ابن الأكرمين، ثم خاطب عمرو قائلا: “يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.. فرضي الله عنك يا ابن الخطاب، طِبتَ حيًا وميتًا.

* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1