+ -

إن هذا الشوق لو يتم استثماره والمحافظة على جذوته متقدة في قلب الحاج، سيكون كفيلا بإذن الله على إحداث التغيير الإيجابي في النفس والمجتمع، غير أن المعارك التي يخوضها الحاج في حجه وحتى قبل سفره كفيلة باقتلاع ذلك الشوق أو إخماد جذوته، إلا من ثبّته الله وعصمه.

وتتمة لمعركة الإعاشة، فإن ظروف تناول الوجبة في المطعم سيئة جدا، فالطاولات لا تنظف، وبقايا الطعام والصحون تشكل ركاما كبيرا على الطاولات، ولكن المعركة ليست هنا، وإنما في الطابور الذي يصل إلى مسافات غير محتملة، جعلته عاملا نفسيا سلبيا، وفيه مضيعة للوقت الذي يفترض أن يُستغل في العبادة، فيكون أحيانا سببا في تضييع الصلاة في الحرم، أو سببا في خروج الحاج من الحرم مسرعا لتفادي الطابور الطويل، كل ذلك جعل الإعاشة همًّا يعيشه الحاج يوميا.

هذا الطابور الذي تتسبب فيه عدة عوامل، منها عدم تناسب مساحة المطعم وعدد الحجاج في الفندق، وعدم تناسب قدرة المتعامل مع عدد الحجاج، مع إمكانية التحايل من أجل الربح أكثر خاصة مع عدم تعليق برنامج ومكوّنات الوجبات، بالإضافة إلى انقطاع الطعام عدّة مرات (مرة الخبز، مرة الدجاج، مرة الفاكهة)، والاقتصار على عدد قليل من نقاط التوزيع في المطعم، وقلة عدد الموظفين في المطعم، وأحيانا نفاد الكمية نهائيا بحجة أن بعض الحجاج يعاودون الوجبات، وإن كان ذلك حاصلا من البعض القليل فقط، فإنه غير مبرّر لأنه يعوّض من قبل المتنازلين عن الوجبة، وما أكثرهم في بعض الأحيان، إلا أنه لا أحد يعلم الكمية التي وفرها المتعامل، هل هي مطابقة للعقود أم لا؟ لقلة المتابعين لملف الإعاشة في جميع الفنادق، ما يفسح المجال لإمكانية التحايل من قبل مؤسسات الإعاشة مشيًا على المثل القائل: (المال السايب يعلم مولاه السرقة).

ولذلك، وجب إعادة النظر في ملف الإعاشة من أصله، وتعويضه بالقيمة، وللحاج حرية اختيار الوجبات من حيث كمّيتها ونوعيتها، وحتى توقيتها، أو جعلها معلّبة (سفري بالتعبير المحلي) توزع في الغرف مباشرة، أو إيجاد حلول أخرى مناسبة كفيلة بإصلاح هذا الوضعية.

ودون الحديث عن ضيق الغرف التي يكدّس فيها الحجاج مع حقائبهم تكديس السلع، حتى مع تقليص عدد الحجاج بنسبة 45% بسبب الجائحة، فما الفائدة من تقليص العدد وتكديس الحجاج متلاصقين داخل الغرف؟!! وكذلك بُعد بعض الفنادق عن الحرم بمسافات متفاوتة من فندق إلى آخر، وكذا المسالك والدروب التي تسلك للوصول إلى الحرم التي تزيد من طول المسافة بفعل الحواجز الأمنية، وأحيانا تكون أكثر زحاما لضيقها ما يعطل حركة المرور، فتزداد المدة الزمنية للوصول إلى الحرم. فعلى سبيل المثال، جميع الحجاج الساكنين بمنطقة المسفلة من جهة شارع إبراهيم الخليل وطريق الهجرة يقطعون مسافة تقريبا 1.5كلم ذهابا، ويا ليتهم يصلون إلى الحرم، وإنما يجدون أنفسهم في التوسعة!!! وكذلك الساكنون في منطقة غزة لا يشمّون رائحة الكعبة، فضلا عن أن يحلموا برؤيتها، وكل ذلك راجع لاختيار الفنادق المتاحة من قبل وزارة الحج السعودية، أفلا يوجد ضمن المتاح أحسن مما تم اختياره؟

وبعد هذه المعارك المتتابعة، فإن قليلا من الحجاج من سيقدر على تحمّلها، وهم أصحاب النفوس الأبية، وذوو العزائم القوية، أو المهيئون مسبقا لها، أما غيرهم فإن شوقهم سينفد، ونفسيتهم ستتعب، وسلوكاتهم ستنحرف عن الانضباط المطلوب، وسيُتّهم الحاج الجزائري بعد ذلك بأنه شديد الانفعال، وسريع الغضب، وعنده القابلية لإحداث المشاكل، وأنه جاء بخلفية مسبقة لعدم الرضا مهما كانت الخدمات، وما علموا أن معارك عديدة نغّصت حياته، وظروفا صعبة استفزّت نفسيته، وتنظيما مضطربا لم يوفر له الراحة. فبدل أن يعمل أعضاء البعثة على استثمار المشاعر الإيمانية للحجاج، تحوّلوا إلى دور آخر وهو امتصاص غضبهم وحنقهم على سوء التسيير، ويروح ضحية ذلك، للأسف، الأئمة المرشدون، ويمسح فيهم الموس كما يقال، ويتعرّضون للإساءة، لأن الحجاج يحمّلونهم أخطاء أو إهمال الآخرين.

إن هذه المعارك ليست بالجديدة وتقع كل موسم حج، والعمل على تجنبها أو التقليل من تبعاتها أمر ممكن وغير مستحيل، فما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه دواء، ومن أنجع الطرق أن تكون تقارير التقييم صريحة في نقل الواقع بعيدة عن المداهنات، ثم تتبعها جلسات تقويم تخصص لمعالجة مشاكل الموسم الفارط من خلال اقتراحات من عايشوا تلك المشاكل، ثم الاستفادة من تجارب الدول الناجحة في مجال الحج، وتهيئة الحاج المسبقة لما قد يكون عسيرا في رحلته مما لم يستطع إيجاد الحل المناسب له إلى غاية إيجاده، وبذلك، سنحافظ على مستوى الشوق العميق العالي الذي يجعل من رحلة الحج رحلة المشتاق بمعنى الكلمة، كما صوّرها الكاتب المبدع خالد أبو شادي، وتكون بعثة الحج الجزائرية رائدة في سماء البعثات الناجحة.

*رئيس المجلس الوطني المستقل للأئمة