لقد أوجب الله المواساة وندب إليها، ورغب في الصدقات وحرض عليها، وحث على وجوه البر والتبرعات، ودعا إلى التكثير منها لما فيها من المصالح العامة والخاصة، ولهذا المعنى عقد مالك في موطئه تحت كتاب الجامع (باب الترغيب في الصدقات).
وعلق أبو بكر بن العربي على هذه الترجمة فقال: (جاء مالك رضي الله عنه في هذه الترجمة بفائدة عظيمة، أخرجها بها من أبواب الأحكام إلى أبواب الفضائل ونبه بها على فضل الصدقة وشرفها)، ولما كان شح النفوس حائلا دون تحصيل كثيرا منها، دلت أدلة الشريعة على الترغيب فيها، فوصفت الذين يقون أنفسهم من شحها ويروضونها على السخاء والعطاء بالمفلحين، قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}، كما أثنت على المنفقين المتصدقين وبشرتهم بيسر الحساب يوم القيامة، وذمت المقترين المانعين وتوعدتهم بعسر الحساب، حيث قال تعالى: {وأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: يعني من أعطى فيما أمر واتقى فيما حظر وصدق بالحسنى يعني بالخلف من عطائه، ثم قال رضي الله عنهما: سادات الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء. وقد نقل الماوردي عن بعض الفصحاء قولهم: (خير الأموال ما استرق حرا، وخير الأعمال ما استحق شكرا).
وتأييدا لجانب التبرعات والترغيب فيها وإقامة لمسلك تكثيرها، جعلت الشريعة التصرفات المتعلقة بها من الأعمال التي لا ينقطع ثوابها بعد الموت، فقد جاء في الحديث الصحيح: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به وولد صالح يدعو له”. ولقد دلت دلائل الشريعة المتساندة على أن مسلك تكثير التبرعات والأعمال الخيرية أمر مطلوب في الأمة شرعا، فهذه الصدقات الجارية والأوقاف المتتالية في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم منه ومن أصحابه رضي الله عنهم كثيرة، منها صدقة عمر وقد أشار عليه بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكذلك صدقة أبي طلحة الأنصاري فإنها كانت بإشارة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومنها صدقة عثمان بن عفان رضي الله عنه ببئر رومة، حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: “من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين”، فاشتراها عثمان وتصدق بها على المسلمين، وعن ابن عباس أن سعد بن عبادة رضي الله عنه: (توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله، توفيت أمي وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: “نعم”، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها)، وعلق ابن عاشور على هذه النصوص قائلا: وكانت هذه الصدقات أوقافا ينتفع المسلمون بثمرتها على تفصيل في شروطها، فلا شبهة في أن من مقاصد الشريعة إكثار هذه العقود، ولهذا المعنى أنكر مالك على القاضي شريح مقالته بحضر التحبيس وقال: (رحم الله شريحا تكلم ببغداد ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم وما حبسوا من أموالهم، وهذه صدقات رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبع حوائط، وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرا، ويندرج في سلم هذه المعاني جواب مالك رحمه الله عندما سئل عن الرجل يخرج بشيء إلى المسكين ليعطيه إياه فيجده قد ذهب قال: يعطيه غيره.
ومن فروع هذا الباب، نهي الرجل من أن يعود في صدقته تنزيها لنفسه من اتباع ما واست به، وحتى لا يعمد الناس إلى أعمال الخير التي قاموا بها فيعودون فيها، ففي الموطأ والصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بفرس في سبيل الله ثم وجده يباع، وظن أن صاحبه بائعه برخس، فسأل رسول الله عن ذلك، فقال له: “لا تشتره ولو باعه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه”، وقد اعتبر الشيخ الطاهر ابن عاشور أن هذا التصرف من رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو إشارة على المستشير وهو حالة من جملة الأحوال التي يصدر فيها قول أو فعل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حيث علق على الحديث السالف الذكر قائلا: فهذه إشارة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه، ولم يعلم أحد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم نهى عن مثل ذلك نهيا علنيا، فمن أجل ذلك اختلف العلماء في محمل النهي فقال الجمهور: هو نهي تنزيه كيلا يتبع الرجل نفسه ما تصدق به فجعله لله، وعلى هذا حمل قول مالك في الموطأ والمدونة، لجزمه أن ذلك البيع لو وقع لم يفسخ.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر