لقد شهد علم المقاصد قفزة نوعية على يد الإمام الشاطبي، الذي جمع شوارده، وقيّد أوابده، فمكّن بذلك أساسه، وشيد أركانه، وأقام بنيانه، فحلّ به بين العلوم الشرعية محل الاختراع والابتكار، ويشهد هو على ذلك فيقول: “فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار، وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله، ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية على منواله، وشكل بشكله”.
ولقد أودع كتابه “الموافقات” هذا الاختراع، فخصص الجزء الثاني منه لعلم المقاصد، فنظم فيه مسالكه، وفصل معانيه، وعلل فروعه، ودلّل على أصوله، فكان عملا لم يسبق إليه، وليس هذا فحسب، بل امتد عمله هذا ليشمل ما كتبه، من موضوعات أصول الفقه في كتابه المذكور، فأخرجها من خلال ما أسسه من علم المقاصد، فكان بذلك سالكا منهجا فريدا، لم يسبق إليه.
وقد اعتمد الشاطبي في عمله هذا على ثلاث نقاط رئيسة هي: اعتماد مسلك الاستقراء في استقصاء كتب العلماء لما تناثر فيها من شوارد المقاصد وجزئياتها. وتنظيم تلك الشوارد والجزئيات واستخرج الكليات منها وتأسيس قواعد مقاصديه. وتحقيق الصورة الواضحة لعلم المقاصد انطلاقا من تلك الكليات والقواعد.
إن المتأمل في هذه العناصر التي اعتمدها الإمام الشاطبي في منهجه وهو يبحث في علم المقاصد يكتشف أنه كان في العنصرين الأول والثاني منها متبعا لشيخه المقري وهو يقعّد القواعد في العلم نفسه، وهذا الذي قصده الفاضل ابن عاشور في كتابه “أعلام الفكر في الغرب الإسلامي” وهو يتحدث عن المقري، فقال “وعلى ذلك المنهج الاجتهادي العالي كان تأسيس السلم الذي تدرج فيه أبو إسحاق الشاطبي حتى انتهى إلى عوالي القواعد القطعية”.
لكن الريسوني يظهر أنه غير مقتنع بفكرة تأثر الإمام الشاطبي بشيخه المقري في علم المقاصد، وهذا ظاهر من خلال اعتراضه على العبارة التي ساقها الدكتور أبو الأجفان في كتابه “فتاوى الإمام الشاطبي” في هذا المجال، وهو يتحدث عن إسهامات الإمام الشاطبي في علم المقاصد، إلى جانب من سبقوه، وذكر منهم شيخه المقري، فقال: “وهو من شيوخ الشاطبي المؤثرين في تكوين شخصيته، المفجرين لمنبع نبوغه”. فردّ الريسونى بالقول: “وقد كان من الممكن، أو من الأفضل التغاضي عن هذا الحكم العام، حول تأثير المقري في الشاطبي رغم ميله إلى المبالغة، ولكن مجيئه في سياق الحديث عن إسهام الشاطبي في بناء المقاصد جعله منصرفا إلى هذا الجانب بالذات”.
إن هذا الكلام من الريسوني فيه انتقاص من دور المقري وتأثيره في تكوين تلميذه الإمام الشاطبي، ويبدو أن الريسوني قد أدرك هذا، فاستدرك على نفسه قائلا: “ولعل عمله كان من بين التنبيهات المبكرة للشاطبي في التفاته للمقاصد وعنايته بها احتمال محض، ولعل الفائدة المنهجية التي أشار إليها الفاضل ابن عاشور هي أهم ما أخذه الإمام الشاطبي عن قواعد المقري”.
إن الريسوني قد أسس كلامه هذا في نفي حصول تأثير المقري في تلميذه الشاطبي في علم المقاصد، على ما قد قرره قبل ذلك، بأن المقري لم يقدم شيئا مميزا ولا جديدا في علم المقاصد، سوى الأربع قواعد التي سبق ذكرها، ولم تكن إلا نقلا لكلام علماء سبقوه. وسنبيّن بالدليل والبرهان بطلان هذا الادعاء لينتهض عكسه ليقوم مقامه، دالا على مساهمة المقري وتأثيره في المكانة التي بلغها تلميذه الإمام الشاطبي في علم المقاصد، والشواهد على ذلك ثلاثة وهي: 1- أن المنهج الذي تدرج فيه الإمام الشاطبي، ليبلغ ما بلغ في علم المقاصد، كان من تأسيس شيخه المقري، وقد أخذ عنه، وهذا لا ينازع فيه الريسوني ولا غيره، ومن المعلوم أن امتلاك منهج أي علم يعني التمكن من مسالك ذلك العلم. 2- أن ما استخلصه المقري من كليات مقاصدية من خلال استقرائه لثروة العلماء الأصولية والفقهية، وما قعده من قواعد، على أساس تلك الكليات في كتابيه “القواعد” و”عمل من حب لمن طب”، كان من الدوافع والحوافز التي وجهت الإمام الشاطبي إلى علم المقاصد، ويقر الريسوني بهذا الأمر، ولا يعترض عليه. 3- دراسة الشاطبي لكتاب “القواعد” لشيخه المقري، الذي ضمنه، إلى جانب القواعد الفقهية، أفكاره المقاصدية، وما توصل إليه من كليات وقواعد في هذا الباب، فكان الكتاب نقطة انطلاق للإمام الشاطبي في هذا الميدان إلى جانب ما كتبه العلماء الذين سبقوا المقري في هذا العلم، وهذا أمر لا نزاع فيه. فتبيّن من خلال ما سبق أن بصمات المقري واضحة جلية في صناعة الإمام الشاطبي المقاصدية.
وبقي أن أشير أنه على الرغم من الخطوات العملاقة للإمام الشاطبي إلا أن المقاصد بقيت عنده جزءا من أصول الفقه، ولذلك تراه قد أدرجها بين كتاب “الأحكام” وكتاب “الأدلة” في كتابه “الموافقات”.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر