+ -

من "شينغيانع" إلى "غويتشو"، مرورا بـ "تشانزان" وصولا إلى "بيكين"، مقاطعات ومدن تكشف عن نماذج مختلفة للتطور الذي وصلت إليه الصين، بفضل سياسة "الإصلاح والانفتاح" التي أطلقت نهاية سبعينيات القرن الماضي، ومكنت الصين في ظرف ثلاثة عقود من مزاحمة القوى الكبرى التقليدية على عرش التفوق في كل المجالات.

ركوب الطائرة من الجزائر باتجاه بكين يضعك أمام تحديات السفر لساعات طويلة بين العاصمتين، فبدلا من أن تستغرق الرحلة تسع ساعات على الأكثر في رحلة مباشرة، كما قال أحد المضيفين وهو يشرح المسار الذي تتخذه الطائرة، تفرض النزاعات والحروب في الشرق الأوسط وفي أوكرانيا أن تأخذ مسارا أطول، لتصل الرحلة حوالي 11  ساعة ونصف ذهابا، و13 ساعة في رحلة العودة.

تستهلك هذه النزاعات الكثير من المقدرات الاقتصادية والعسكرية للدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في وقت تركز فيه الصين مجهودها على كسب الرهانات الاقتصادية والاجتماعية داخليا، وهو ما يتجلى اليوم في حضورها الاقتصادي الدولي واتساع رقع نفوذها في مختلف القارات، بما فيها الدول الغربية الغريمة.

ولن يتطلب منك الأمر الوقت الكثير لتصل إلى هذه الخلاصات، فبمجرد قضاء ساعاتك الأولى وأنت تتجول مثلا في غويان عاصمة مقاطعة غويتشو الواقعة بجنوب غرب الصين، التي كانت تعد منذ حوالي عقدين من الزمن من أفقر المقاطعات في الصين، تجد نفسك بمدينة مستقبلية بها أكبر مراكز حفظ البيانات الرقمية والشركات ذات التقنية العالية، وجعلت من الفقر محركا رئيسيا نحو بناء الثروة، أو لما تزور مصنع "بي واي دي" لصناعة السيارات، أو "بلدية هواوي الأوروبية" للاتصالات والخدمات الرقمية الفخمة، أو مقرها الاجتماعي بتشنزان، أو التطور الهائل في البنية التحتية في أورومتشي عاصمة شينغيانغ التي اقترن اسمها بأزمة قومية الإيغور التي تحولت إلى "كعب أشيل" في جسد الصين، مثلها مثل التبت أو هونغ كونغ.

هناك تكتشف وجها آخر للإنسان الصيني الذي يبني تفوقه على قاعدة رئيسية؛ وهي التخطيط والتنفيذ بدقة واعتماد الرقمنة كسبيل لتحقيق كل الأهداف المرسومة من طرف الحزب الحاكم.

الصين القوة الاقتصادية الهائلة والمنافسة للولايات المتحدة على عرش الريادة، يقف وراء انجازاتها عمل ضخم داخلي، وعلى رأسها التعليم والرقمنة. كما لخصه أحد مسؤولي حزب الشعب الصيني بغويان عاصمة غويتشو، التي تعد أحد نماذج نجاح المقاربة الصينية في التنمية، أو ما استطاعت أن تصل إليه مدينة تشانزان المحاذية لهونغ كونغ بشرق الصين، التي كانت مجرد بلدة صغيرة يؤمها الصيادون في بداية الثمانينيات من القرن الماضي.

 

غويتشو.. من تحت خط الفقر إلى الريادة الرقمية

 

زرت الصين في سبتمبر 2019 بمناسبة الذكرى الأربعين لإطلاق سياسة الإصلاح والانفتاح، وعلق في ذهني يومها تصريح لعميد معهد شنغهاي للدراسات الإستراتيجية خلال محاضرة له، قدم خلالها مسار التنمية في الصين، وقال في معرض حديثه، بأنه في الصين قد كسبوا معركة تنمية في شرق الصين وأن أكبر تحدٍ لهم هو تنمية المناطق الغربية الداخلية التي ترتفع بها نسب الفقر بشكل كبير، فالصين تواجه معركة تلبية حاجيات أكثر من 1.42 مليار شخص.

في زيارتي الثانية للصين، زرت مقاطعة غويتشو، وبالضبط غويان عاصمة المقاطعة التي كانت تصنف من بين أفقر المقاطعات في الصين وكان حوالي تسعين بالمائة من سكانها فقراء.

الطريق من مطار العاصمة غويان، الذي كان أقل ما يقال عنه تحفة فنية باذخة في الجمال من ناحية التصميم، إلى فندق الإقامة بالمدينة الجديدة يمر بك بوسط المدينة القديمة التي تتميز بشوارع ضيقة وبنايات مكدسة بطراز معماري قديم، وإن كانت تمتلئ حيوية ونشاطا لكثرة المحلات التجارية التي تقدم مختلف الخدمات.

لكن المدينة القديمة تفتح لك الباب واسعا، وأنت تبتعد عن مركزها لاكتشاف نسيج عمراني متطور بشكل يحيلك لمدن كشنغهاي أو هونغ كونغ أو تشانزان المعروفة بطابعها العمراني الأنيق والمبهر، حيث تنتصب الأبراج السكنية الحديثة ومقرات الشركات ذات تصاميم مستقبلية تعكس الوهج الاقتصادي والتكنولوجي الصيني، وتترجم الحركية التي تعيشها الصين في مجال تطوير بناها التحتية.

غويان عاصمة غويتشو، وكباقي المقاطعة معروفة بتضاريسها الجبلية ومسالكها الوعرة، ما شكل عائقا كبيرا أمام انفتاح المقاطعة على باقي المناطق، وجعلت منها مقاطعة منغلقة على نفسها ووضعها في خانة المناطق الأكثر فقرا في الصين، حيث كان يعتمد سكانها سابقا على العائدات من المنتجات الفلاحية وبيع خشب الأشجار التي تكسو أغلب مساحات المقاطعة المعروفة بغاباتها الوارفة وجبالها متوسطة الارتفاع التي تظهر في شكل أهرام متلاصقة.

غويتشو التي طالما اقترن اسمها بألبسة سكانها التقليدية وتراثها الفلكلوري الذي سوقت له أقلية "مياو" عبر رقصتها وألبستها المميزة الشهيرة عبر أصقاع العالم، تحولت اليوم إلى قطب تكنولوجي بامتياز، استطاعت أن تجذب إليها أكبر شركات تكنولوجيا الاتصالات والرقمنة عبر العالم.

هذه النقلة ساهمت فيها خطط التنمية الموضوعة من طرف الحكومة المركزية وحكومة المقاطعة، حيث أصبحت اليوم ملاذا للاستثمارات المتصلة بتكنولوجيا المعلومات ومراكز البيانات لأكبر الشركات في المجالات عبر العالم. كما أصبحت تستهوي المتخرجين الجامعيين من مختلف الجامعات الصينية في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

 

كلمة السر.. الرقمنة وشق شبكة الطرقات

 

يقول مدير الشؤون الخارجية لمقاطعة غويتشو، تاو بينغشانغ، خلال استقباله لوفد من الصحفيين والأكاديميين الجزائريين بمقر العاصمة غويان، إن برامج التنمية في غويتشو استطاعت أن تنقل المقاطعة من كونها الأفقر في الصين، إلى مقاطعة تعد نموذجا من ناحية نجاح المخططات التنموية ومحاربة الفقر، التي تكللت إلى تغيير وجه المقاطعة ونقل المستوى المعيشي للسكان إلى مراتب أعلى.

وفي هذا السياق، قال المسؤول الصيني بأن الحركية التنموية وخطط القضاء على الفقر التي تأخذ مركزا متقدما في سلم الأولويات في البلاد، مكنت من انتشال 98.99 مليون شخص من الفقر في الصين، واستطاعت أن تنتشل مقاطعة غويتشو 9.23 مليون شخص من الفقر من أصل 43 مليون ساكن، وهو ما يمثل حوالي واحدا على عشرة من إجمالي عدد السكان في البلاد التي يقدر عددهم بحوالي 1.3 مليار شخص.

ويلخص سكان غويتشو مقاطعتهم بالقول بأنها المقاطعة التي لا توجد بها ثلاثة أيام متتالية يكون فيها الجو مشمسا، ولا توجد أكثر من ثلاثة أميال مسطحة، للتعبير عن طبيعة تضاريسها الجبلية، حيث أنها المنطقة الوحيدة في الصين التي لا توجد بها سهول، كما أنه لا يوجد بها أشخاص يملكون أكثر من 3 قطع نقدية للتعبير عن مدى الفقر الذي كان يعيشه أبناء المقاطعة سابقا.

وكسب رهان التنمية، كان نتيجة حركية تنموية كبيرة عرفتها المقاطعة وإرادة سياسية مدعومة من طرف السلطة المركزية في بيجين، إذ أكد تاو بينغشانغ في معرض كلامه وهو يقدم عرضا عن المقاطعة وما تم انجازه بها، كونها تعد نموذجا في الصين، وبأن السر وراء نجاح غويتشو مرتبط بوضع المخططات وفق التوجيهات العامة للحزب الحاكم، وتحرير المبادرة وفق خصائص المقاطعة، والمتابعة الصارمة في تنفيذ المخططات على أرض الواقع وتقييم ما تم انجازه، حيث يتم التقييم من طرف السلطات المركزية، وعلى أساس النتائج على أرض الواقع، يكرم ويرقى المسؤولين عن نجاح المخططات، والعكس صحيح بالنسبة للمسؤولين الذين فشلوا في مهامهم.

ولعل محرك هذه التنمية - كما قال تاو بينغشانغ يرتبط بعاملين اثنين كانا كلمة السر وراء القفزة التنموية التي عرفتها المقاطعة؛ وهي الرقمنة وشق الطرقات وانجاز الجسور وتطوير شبكة المواصلات. إذ تمتلك المقاطعة، التي تمتد على مساحة 79 كيلومترا مربعا، شبكة طرقات تتجاوز 8 آلاف كيلومتر متصلة بالطرق السريعة، مع العلم أن الجبال تشكل 93 بالمائة من مساحتها وتغطي الغابات 63 بالمائة منها.

وتعتبر غويتشو مدينة الجسور بامتياز، ويطلق عليها اسم "متحف جسور العالم"، حيث بها أكثر من 20 ألف جسر ومن بين 100 جسر الأطول في العالم يتواجد 50 منها فقط بغويتشو، التي شيدت بمختلف أنواع التقنيات الموجودة في العالم، على غرار الجسور المعلقة والجسور المثبتة بالكابلات والجسور المقوسة والجسور ذات عوارض، ويتم تشييد بها حاليا جسر تيانمان في الصين الذي يبلغ طوله 1553 مترا ويعتبر مشروعا رئيسيا على الطريق السريع الذي يربط بين آنشونو بانتشو في المقاطعة، ويطلق على المقاطعة بمتحف الجسور.

كسب معركة الرقمنة، التي تعد عاملا رئيسا بالنسبة للصينيين في تحقيق المشاريع التنموية، تعد فيه شركة "هواوي"، الرائد العالمي في مجال تكنولوجيا الاتصالات الصينية الخاصة، القلب النابض في هذه المعركة، إذ تمتد أذرعها إلى كل المجالات والقطاعات المرتبطة بالرقمنة والحوكمة.

ويتجلى خلال المؤسسات التي تعتمد على استخدام المعطيات الرقمية في تسيير شؤون الحياة المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية، حيث تتواجد بغويان "مركز المنطقة التجریبیة الشاملة للبیانات الكبرى الوطنیة" الذي تم إنشاؤه في سنة 2014، وهو أول مركز تجريبي للبيانات الضخمة في البلاد، ويتكفل هذا المركز بتسيير كل ما له علاقة بالمعطيات الرقمية والبيانات في الصين، سواء أتعلق الأمر بالنقل بمختلف مجالاته والتوسع العمراني وتسيير المدن والنشاطات الاقتصادية بشتى فروعها الممكنة.

وساهم تطوير البنية التحتية في تحويل غويتشو إلى مركز رئيسي يستضيف مراكز البيانات الضخمة، وتم اختيار المقاطعة لأن تكون فضاء تجتمع به الشركات التكنولوجية والمقاولات ومركز لإنشاء مراكز البيانات الضخمة، بسبب مزاياها الطبيعية الخاصة؛ إذ تتميز بجو معتدل تتراوح درجة الحرارة بها ما بين 15 درجة شتاء و30 درجة صيفا، وتبلغ نسبة نقاء الهواء 98 بالمائة، ما جعل من المقاطعة العمود الفقري لخدمات الانترنت في الصين.

وبني مركز للبيانات الضخمة تحت أحد الجبال بالمقاطعة، يتم به جمع بيانات عدة شركات من بينها هواوي وأبل وغيرها من الشركات. هذه المميزات دفعت عدة شركات أخرى رائدة لإقامة مراكز بياناتها بالمقاطعة، على غرار "كالكوم" و"اينتال" و"هاولتباكارد" و"أوراكل" و"ساب" و"علي بابا" و"تانسان".

وتجذب المقاطعة المزيد من شركات البيانات الضخمة؛ حيث انتقل عدد هذه الشركات من 1000 شركة قبل 6 سنوات؛ إلى أكثر من 9 آلاف شركة.

 

"بيكس".. التفكير خارج الصندوق

 

كل هذه المعطيات جعلت من المقاطعة بيئة خصبة للابتكارات، خاصة في مجالات التكنولوجيا الرقمية، ولعل شركة "بيكس موفينغ" لصناعة السيارات ذاتية القيادة، واحدة من بين الشركات الناشئة التي أثبتت نفسها في مجال السيارات ذاتية القيادة، التي اختارت غويان لتطوير مشروعها.

"نحن نعيش.. نحن نتحرك"، هو شعار هذه الشركة الناشئة التي استطاعت أن تبني لها اسما في مجال السيارات ذاتية القيادة في العالم انطلاقا من مصنعها بغويان، حيث أتيحت لنا الفرصة لزيارة المصنع واختبار إحدى السيارات ذاتية القيادة، وكذا زيارة خطوط الإنتاج بها.

مصنع "بيكس" يضم عدة مبانٍ، منها المخصصة للإدارة، وأخرى للأبحاث والتطوير وأخرى بها خطوط الإنتاج. وما لفت الانتباه؛ المكاتب الزجاجية المربعة المخصصة للمطورين، وكتب عليها عبارة "فكر خارج الصندوق"، وهو ما يبرع في تنفيذه "عباقرة" الشركة الذين طوروا أكثر من سيارة و"روبوت" يقوم بوظائف ومهام مختلفة، من سيارات النقل إلى سيارات الإشهار وروبوتات المخابر، بتصاميم مستقبلية وخصائص ومميزات جعلت الطلب عليها يتزايد، ودفعت الشركة التي تعرف نموا وتوسعا كبيرا تفتح فروعا لها في عدة بلدان أوروبية وبالولايات المتحدة الأمريكية.

تقول مديرة التجارة الدولية لشركة "بيكس"، نانسي لي: إن الشركة تم تأسيسها في سنة 2013، وتملك حاليا فرعا في اليابان وتملك مكاتب بعدة دول أوروبية، استطاعت أن تصدر سيارتها إلى أكثر من 30 بلدا عبر العالم.

أما السيارات التي تنتجها الشركة؛ فتتمثل في "robo bus"، وهو النموذج الأكثر طلبا من بين نماذج السيارات ذاتية القيادة التي تنتجها الشركة، الذي يتميز بشكله المحدب المصمم بطريقة جمالية وصديق للبيئة، يعمل بالطاقة الكهربائية وثنائي الاتجاه. كما يمتلك تصميمات داخلية تسمح لصاحبها أن يستعملها وفق أذواقه، على غرار الأضواء الداخلية، وبه العديد من المميزات والاستعمالات مثل نقل الأشخاص، حيث يتسع لستة أشخاص أو يتحول إلى منصة تجارية لعرض البضائع والمنتجات والبيع بالتجزئة، حيث سيكون حاضرا مستقبلا في الفضاءات المخصصة للأنشطة التجارية وفي المناطق الحضرية، ويبلغ سعرها حوالي 150 ألف دولار. وإلى غاية شهر جويلية، تم بيع 100 وحدة وتوصلوا بطلبيات لحوالي 1000 وحدة، وفق المسؤولة في الشركة.

كما تنتج الشركة عدة نماذج أخرى، مثل "pixilit" والموجهة للاستخدام بمخابر البحث العلمي، هيكلها مصنوع من مادة الأليمينوم مصنع بالشركة بتقية ثلاثية الإبعاد، وتم تصديرها إلى أكثر من 30 بلدا، إلى جانب سيارة "بلانك" التي تستعمل في المسابقات بين الجامعات وتبلغ سرعتها 40 كيلومترا في الساعة، وهي مطلوبة بشكل أكبر من طرف الجامعات ومخابر البحث العلمي.

وتعتبر شركة "بيكس" الواعدة في مجال السيارات ذاتية القيادة؛ شركة واعدة في هذا المجال، وتفرض منافسة كبيرة مع باقي الشركات النشطة في هذا المجال في العالم.

 

شينغيانغ.. من الحرير إلى الحزام

 

نموذج غويتشو في التنمية لا يختلف عما تقدمه مقاطعة شينغيانغ ذاتية الحكم، التي استطاعت أن تتحول إلى واجهة ومنفذ للصين نحو العالم.

شينغيانغ مقاطعة لها مميزاتها الجغرافية والتاريخية والإثنية والدينية في الصين، ما جعل لها طابعا مميزا عن باقي مناطق الصين، حيث تتمتع بالحكم الذاتي إلى جانب أربع مقاطعات أخرى، وتلمس خصوصية المقاطعة منذ أن تمتطي الطائرة من مطار بيكين متجها إلى العاصمة أورومتشي، في رحلة تدوم أربع ساعات، حيث تقدم تعليمات الأمان بالطائرة باللغة الإيغورية إلى جانب اللغة الصينية، مع الإشارة إلى أن الصين تمتلك العديد من شركات الطيران الداخلية التي تستخدم طائرات آخر طراز لشركة "بوينغ" وبخدمات تنافس شركات عالمية كالقطرية أو الإماراتية.

وبمجرد وصولك إلى مطار أروموتشي، ستجد اللافتات مكتوبة باللغة الإيغورية، إلى جانب اللغة الصينية، كما يلفت الاستخدام الطاغي للون الأزرق في اللافتات في المقاطعة. وأنت تتجه إلى باب الخروج في جانبه الأيمن، يقابلك مجسم كبير لقافلة من الجمال يتقدمها شيخ في منطقة صحراوية، مجسم يسافر بك إلى ماض بعيد، يشكّل تاريخ وإرث المنطقة التي احتضنت على مدار عقود قوافل التجار من وإلى الصين، سالكة طريق الحرير حيث تعتبر تشانغ يانع أحد مسالكه الرئيسية.

تقع مقاطعة شينغيانغ في أقصى شمال غرب الصين، عاصمتها أورومتشي وتبلغ مساحتها حوالي 1,664,900 كيلومترا مربعا، تعتبر منطقة إستراتيجية بفضل موقعها الجغرافي؛ حيث لها حدود من الغرب مع كل من طاجاكستان وقيرغيزستان وكازاخستان وأفغانستان وباكستان، ومن الشمال روسيا، ومن الشمال الشرقي منطقة مُنغوليا الصينية، ومن الجنوب الغربي دولة الهند.

وتراهن بكين على جعل الإقليم بوابة العالم، حيث مكنتها من استثمارات ضخمة في مجال البنية التحتية، من خلال شق الطرقات السريعة والسكك الحديدية والمطارات، إذ تعول عليه بكين لأن يكون بوابة الصين نحو أوروبا ومنها إلى العالم.. كما كان حال شينغيانع حينما كانت المعبر الرئيسي لطريق الحرير الصيني نحو العالم.

تعرف مقاطعة شينغيانغ بأنها بلاد الجبال الثلاث ذات مناخ صحراوي جاف، لكن وأنت تتجول في العاصمة أورومتشي، لا تشعر بأنك بمدينة صحراوية بسبب عملية التشجير الواسعة، حيث تم غرس الأشجار بشكل كبير وعلى مساحات شاسعة في تخوم المدينة وفي شوارعها وأحيائها، ما غيّر من مظهرها وجوها العام، ينسيك بأنك بمنطقة صحراوية لولا درجة الحرارة المرتفعة وجوها الجاف. وتلقى الأشجار المغروسة في كل أنحاء المدينة عناية خاصة جدا، سواء من حيث نظم السقي أو عن طريق إسناد جذوع الأشجار بطريقة متناسقة وبعناية فائقة، زادتها جمالا.

مقاطعة شينغيانغو التي لا تختلف عن باقي المقاطعات الواقعة في هذا الجانب من الصين، التي كانت تميزها نسبة الفقر المرتفعة والتنمية المعطلة؛ بسبب عدة معطيات على رأسها صعوبة التضاريس وعدم وجود شبكات المواصلات، ما جعلها مناطق معزولة جغرافيا وتنمويا.

لكن خلال العقود الأخيرة عرفت المقاطعة قفزة تنموية كبيرة، تجلت في حجم شبكات الطرقات التي شقت والمشاريع التنموية على مستوى البنى التحتية الضخمة التي أطلقت، فارومتشي لا تختلف اليوم عن باقي مدن الصين الواقعة في الجانب الشرقي، فترتفع بها المباني الشاهقة ذات التصاميم العصرية والأحياء السكنية الحديثة.

 

صور مهربة من أورومتشي

 

لما تسمع أو تقرأ عن شينغيانغ أو أورومتشي، يتبادر إلى ذهنك قضية أقلية الإيغور المسلمة، وأنت تستعد لزيارتها يختلج في نفسك مشاعر مختلطة من عدم الارتياح وشكوك بخصوص الوضع الأمني هناك، بسبب الأحداث الأليمة التي عرفتها على مدار سنوات وما كتب عن الموضوع في الصحافة الدولية، هذه الصورة وهذه المشاعر التي تسعى الصين لأن تمحيها من المخيال، بتحويلها إلى مركز جذب اقتصادي دولي.

أورومتشي ذات الغالبية المسلمة التي تسكنها أقليات الإيغور، وهي الأكبر عددا إلى جانب عرقيات أخرى على غرار الكازاخ، والمغول، والهوي، والقرغيز، والمان، وشيبوه، والطاجيك، والداهور، والأوزبك، والتتار، والروس والهان وعرقيات أخرى ما يجعل من الإقليم الأكثر تنوعا في الصين.

وأنت تتجول في وسط المدينة القديمة، ستجد المطاعم بتخصصات لم تجدها في باقي المقاطعات، التي تقدم المشاوي في أشكال مختلفة وبطرق متنوعة تظن نفسك أنك في شوارع طهران أو اسطنبول أو أي مدينة ذات هوى شرقي، وحتى سحنات المواطنين هناك مختلفة تعكس التعدد الاثني في المدينة، مع محافظة شريحة الشيوخ والكهول وحتى بعض الشباب على الزي التقليدي في اللباس، ويتجلى بها المعطى الإسلامي لكثرة المساجد في مدينة أوروتشي ذات الطابع العمراني العثماني المتواجدة في كل جنبات المدينة.

وكانت لنا الفرصة لزيارة مسجد يانغ هانغ الذي يعتبر من أكبر المساجد في المدينة، الذي بني سنة 1897 على مساحة تزيد عن 5000 متر ويتسع لأكثر من 2000 مصلي، مفتوح لأداء صلوات الخمس، ويرفع به الأذان عبر مكبر الصوت في صلاة الجمعة وصلاة العيد.

وبمحاذاة المسجد يتواجد البازار الشعبي، المكان الأشهر في المدينة، الذي تعتليه صومعة بطول 80 مترا كانت تستخدم لمراقبة السوق وقوافل التجار أيام طريق الحرير. والبازار الشعبي هو فضاء يلتقي فيه أبناء المدينة للتسوق وقضاء أوقات رفقة العائلة، وأيضا فرصة للسياح للتعرف على تاريخ وثقافة المدينة، حيث تؤدي فرق محلية رقصات شعبية يرتدي أفرادها أزياء تقليدية مختلفة للأقليات التي تنتشر بالمقاطعة، ما يضفي على أجواء البازار جوا احتفاليا كبيرا، كما تقدم المطاعم هناك أطباقا تقليدية مختلفة في الطهي وشكل التقديم، خاصة وهي شهية ولذيذة.

والملاحظ على خلاف باقي أماكن التسوق التي سبق وزرناها في الصين، فإن الدخول إلى البازار كان به نقاط تفتيش عبر "سكانير"، حسب ما تقتضيه إجراءات الأمن. ومعلوم أن مدينة أورومتشي مرت بفترة أمنية صعبة ما بين 1990 و2016 بسبب تنامي نشاط الجماعات المسلحة، حيث عرفت العديد من الأعمال المسلحة خلال هذه الفترة، وفجرت الأحداث جدلا واسعا على المستوى الدولي، بعد اتهام الصين بالتضييق على المسلمين وعلى مراكز العبادة واستهداف أقلية الإيغور المسلمة، واتخاذ تدابير قمعية في حق المسلمين، في حين دافعت الصين عن موقفها بأنها استهدفت من وصفتهم بالإرهابيين والانفصاليين. كما اتهمت الصين بتخصيص أماكن حجز في ظروف غير إنسانية للمعتقلين من أقلية الإيغور، إلا أن الصين كذبت هذه الاتهامات وأكدت بأنها مراكز لإعادة التأهيل لمن تورطوا في أعمال العنف أو يحملون أفكارا متطرفة.

ويلفت انتباهك وأنت تتجول بعاصمة المقاطعة؛ هو كثرة مراكز الشرطة مقارنة بالمدن التي زرتها خلال الرحلة، وكل هذه المراكز كانت مغلقة ونوافذها محكمة الإغلاق بالهياكل الحديدة وبوابة المدخل، ما يشير إلى الفترة الأمنية المضطربة التي عرفتها المدينة.

الزيارة لأرومتشي أتاحت لنا الفرصة للقاء ممثلي عن حكومة المقاطعة للحديث عن واقع المقاطعة الاقتصادي والاجتماعي والأمني، بالنظر إلى أنها مقاطعة كانت حديث الإعلام العالمي بسبب الأحداث الأمنية التي عرفتها وشكلت صداعا لبكين، كما طال الحديث العلاقات بين المقاطعة والجزائر وآفاق تطويرها.

قال شوغو يتشيانغ، أمين مجموعة الحزب في مكتب الشؤون الخارجية في شينغيانغ، خلال اللقاء، أن المقاطعة شهدت أحداثا أمنية على مدار حوالي عقدين ونصف العقد من الزمن ما بين 1990 إلى 2016: "استخدمت القوى الثلاث "الانفصالية والمتطرفة والإرهابية" الدين كوسيلة لكسب المنافع من خلال تشويه العقائد لإرباك الجماهير، وتحريضها على معارضة الحكومة تحت شعار الجهاد"، مشيرا إلى أن بلاده وفي عام 2017 "اتخذت الحكومة إجراءات صارمة للقضاء عليها، وحكمت على الإرهابيين الذين ارتكبوا جرائم خطيرة بالسجن"، و"أنشأت مركزًا للتدريب والتعليم المهني لتعليم هؤلاء الأشخاص اللغة الوطنية والقانون ومهارات أخرى من أجل تحقيق أهداف اجتثاث التطرف والمساعدة "على إيجاد فرص شغل، وتم إغلاق مركز التدريب والتعليم المهني رسميًا في أكتوبر 2019 بعد عامين ونصف العام من التعليم المكثف"، يضيف المسؤول الصيني.

وتطرق المسؤول الصيني في معرض حديثه إلى موقف الدول الغربية التي بدأت في 2018 التركيز على الوضع في المقاطعة، وشن حملة تشويه ومغالطات، في المقابل قامت الحكومة الصينية - وفق المتحدث - "منذ نهاية عام 2018 وحتى الآن، قمنا بدعوة منظمات دولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة العمل الدولية ولجنة القضاء على التمييز العنصري ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، وكذلك سفراء مختلف الدول لدى الصين ودول أخرى، أي ما مجموعه 80 ألف شخص و600 مجموعة، لزيارة شينغيانغ، وقمنا بتعريفهم بصراحة وصدق بالوضع في شينغيانغ"، مشيرا إلى أنه منذ عام 2016 وحتى الآن، حققت شينغيانغ استقرارا مستداما. 

 

الميناء البري الدولي لأورومتشي.. همزة وصل مع أوروبا والعالم

 

تكتسي شينغيانغ أهمية كبيرة بسبب موقعها الجغرافي، وازدادت أهميتها مع مشروع الحزام والطريق، وتعتبر المقاطعة نافذة الصين نحو العالم، والميناء البري الدولي لأورومتشي، إحدى هذه النوافذ، ويلعب دورا هاما في تنمية الاقتصاد الصيني، ويمر عبره عدة خطوط السكة الحديدية مع روسيا ومنغوليا وكازاخستان، وصولا إلى أوروبا الغربية ومنها إلى البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب الربط مع كل من أفغانستان أوزبكستان وإيران، ويمر عبر الميناء 21 خطا للسكك الحديدية يربط المقاطعة مع 19 دولة و26 مدينة على طول 2500 كيلومتر ويتربع الميناء البري الرئيسي على 20 ألف متر مربع.

ومن هنا تبرز أهمية هذا الميناء وأهمية تطوير الجانب اللوجستي، حسب القائمين على الميناء، حيث يعتبر بوابة لنقل مختلف البضائع الصينية، من معادن والمنتجات المختلفة المصنعة بالصين.

وتشير الإحصائيات إلى أنه في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2023، ارتفع عدد رحلات قطارات الشحن بين الصين وأوروبا بنسبة 5 في المائة إلى 10575، وفقا للبيانات الرسمية. وتم إجراء إجمالي 1026 رحلة من شينغيانغ عبر قطارات الشحن بين الصين وأوروبا (آسيا الوسطى)، مع مغادرة 887 قطارًا من منطقة الميناء البري الدولي في أورومتشي خلال هذه الفترة.

 

شينغيانغ تفتح أبواب التعاون الاقتصادي مع الجزائر

 

دعا شوغو يتشيانغ إلى إرساء تعاون اقتصادي مع الجزائر، من خلال فتح أبواب النشاط للشركات الجزائر بالمقاطعة وشركات المقاطعة بالجزائر، مشيرا إلى "أن شينغيانغ تتمتع بأساس جيد للتعاون مع إفريقيا، ولديها علاقات تجارية مع أكثر من 50 دولة في إفريقيا، حيث تستثمر 10 شركات في إفريقيا".

وتصدر "شينغيانغ بشكل رئيسي الأحذية والأحذية البلاستيكية والحديد والصلب وقطع الغيار إلى الجزائر"، لأنه "لا توجد شركات شينجيانغ في الجزائر أو شركات جزائرية في شينجيانغ. في المستقبل، يمكن للجانبين تعزيز التعاون، وأعتقد أنه يمكن تعزيز التعاون في إنتاج ومعالجة النفط والغاز وصناعة الفحم والتعدين الأخضر والحبوب والزيوت والحبوب والزيوت والفواكه والخضروات الخضراء والقطن والمنسوجات والطاقة الجديدة والصناعات الجديدة، وغيرها من القطاعات لتعزيز تحديث التنمية".

وعن المجالات التي يمكن الاستثمار فيها، تحدث المسؤول الصيني عن "زراعة الفواكه والخضروات في شينغيانغ التي تعد أكثر نضجا"، كما أعطى مثالا آخر حول "تعزيز تقنيات مكافحة التصحر". ويشار إلى أن المقاطعة، وخاصة أورومتشي، لديها تجربة ناجحة في محاربة التصحر، واستطاعت أن تحول مساحات شاسعة من الأراضي الصحراوية إلى أراضي خضراء.

وعبّر شوغو يتشيانغ عن أمله في أن يغتنم الطرفان مبادرة "الحزام والطريق" كفرصة "لتعزيز التعاون الحكومي الدولي بين شينغيانغ والجزائر"، لأن مبادرة الحزام والطريق هي أيضا، حسبه: "منفعة عامة عالمية اقترحتها الصين للدعوة إلى التعاون وتوارث الصداقة، وهو ما يتماشى مع بناء برنامج الجزائر الجديدة والخطة الخماسية للتعاون الاستراتيجي الشامل بين الصين والجزائر".

 

بحيرة "تيانتشي" جنة وسط متناقضات

 

وإلى جانب المؤهلات الاقتصادية والاستثمارية التي تحوزها المقاطعة، فإنها تمتلك أيضا مؤهلات سياحية كبيرة على غرار بحيرة "تيانتشي"، حيث تمتد عبرها سلسلة جبال تيان شان في أقصى شمال غربي الصين، وتقسم هذه السلسلة الجبلية منطقة شينغيانغ جزأين، شمال وجنوب، ما يجعل المنطقة موطنا للفواكه اللذيذة التي تمتاز بإنتاج العنب والرمان والتين والمشمش والبطيخ، حيث تنتج أحد أجود الأنواع.

وكانت لنا الفرصة لزيارة بحيرة تيانتشي، ومعناها البحيرة السماوية في اللغة الصينية، وهي بحيرة طبيعية تقع بين سلسلة جبال تيان شان وسط منطقة شينجيانغ وتبعد عن مدينة أورومتشى بمائة كيلومتر.

جبال تيان شان الشاهقة بقممها الثلجية، تشكل لوحة نادرة ومشهدا طبيعيا يجمع بين المتناقضات بين رمال صحراء تكلا مكان الجرداء ومنظر الثلوج التي تكسو الجبال، الذي يزيد من سحر المقاطعة من خلال الجمع بين الأضداد في مكان واحد.

وتختزن جبال تيان شان الكثير من المناظر الطبيعية الخلابة والأشجار الوارفة والأحراش، التي تنال حظها من السقي بالتقطير مستفيدة من المياه القادمة من قمة الجبال حين ذوبان الثلوج. ويستغرق الوصول إلى بحيرة تيانتشي عبر الحافلة حوالي 30 دقيقة، عبر طرق ملتوية تتركك تستمتع بمناظر تقطع الأنفاس، لتصل بعد ذلك إلى بحيرة تيانتشي ذات المياه الصافية الرقراقة، ويقصدها الزوار والسياح للاستفادة من مناظرها الطبيعية والتخييم والرياضة، وأيضا من أجل التداوي من مياه البحيرة الصغيرة المحاذية لها التي يقال إنها علاج للعديد من الأمراض الجلدية.

يذكر أن سلسلة جبال تيان شان واحدة من أكبر سبع سلاسل جبلية في العالم، وهي أيضا أكبر سلسلة جبال محلية تمتد من الشرق إلى الغرب.