هل الاستشهاد خسارة وانهزام أم بداية الانتصار؟، هل الاستشهاد نهاية أم بداية تتجدد؟، هل الاستشهاد فشل وعدم أم خلود الأبد؟، لا يشك عاقل بَلْهَ مسلم أن الاستشهاد هو بداية الانتصار، فما دام ثمة من يضحي بنفسه من أجل دينه ومبادئه ووطنه وعرضه، فالنصر قادم لا محالة وإن طال الزمان، وأمارات قدومه هو قوافل الشهداء الأبرار. ولا يشك عاقل بَلْهَ مسلم أن الاستشهاد هو بداية تتجدد، فتتجدد معها معاني الإيمان الراسخ، والحرية الحقة، والرجولة الصادقة، والوطنية النقية. ولا يشك عاقل بله مسلم أن الاستشهاد هو خلود الأبد ذكرا طيبا، ورمزا ساميا في الدنيا، وذكرا حسنا ومقاما عليا في الآخرة، فحين يرتفع الشهداء إلى ربهم ترتفع بهم كل هذه المعاني، وتسمو بهم همم الأخيار من الناس اقتداء بهم، فيواصلوا مسارهم حتى يأتي الله بنصره في الوقت الذي يريده ويختاره سبحانه وهو الحكيم العليم: {لكل أجل كتاب}.
مما يحفظه أغلب المسلمين قول الله جل شأنه في الشهداء: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون}، وقوله أيضا: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين}، وهذا تنويه عظيم بقدر الشهداء ومكانتهم عند الله تبارك وتعالى، وتقرير لحقيقة جليلة وهي أن الشهادة يظهر لبادئ الرأي أنها موت وما هي إلا حياة، وحياة عند الله فوق هذه الحياة الدنيا التي لا تصفو لبشر، ولا تدوم، وإن كنا لا نعلم حقيقتها وطبيعتها، ولكنها بلا ريب حياة كاملة حقيقية، وعقولنا ونفوسنا وتكويننا البدني والعقلي والروحي يقصر عنها كما عبر القرآن العظيم: {بل أحياء ولكن لا تشعرون}، فنحن لا نشعر بهذه الحياة وعظمتها لأنها تتجاوز قدراتنا المحدودة جدا.
وقد عنّ لي في هاتين الآيتين العظيمتين معنى لطيف جدا، يستشف من أنوارهما، وهو أن الشهيد وإن انقضى أجله في هذه الحياة، فإن رسالته فيها، التي استشهد من أجلها وفي سبيلها ستبقى حية، بل تزداد حياة بشهادته، فدماء الشهداء لا تذهب هدرا أبدا، وخاصة الشهداء العظام من قادة الجهاد الكبار، فالشهيد لن يموت مشروعه، ولن تموت رسالته، بل تروى بدماء الشهداء حتى يتحقق نصر الله لأهل الحق، ويشهد لهذا المعنى اللطيف قوله تعالى: {والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم}،وهذه قراءة أبي عمرو وعاصم، وهي في الشهداء، وقرأ باقي القراء: {والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم}، وهذه في المجاهدين عامة من استشهد منهم ومن لم يستشهد، والمعنى كما قال الإمام ابن كثير رحمه الله: “أي: لن يذهبها بل يكثّرها وينميّها ويضاعفها”. وقال العلامة ابن ناصر السعدي رحمه الله: “أي: لن يحبطها ويبطلها، بل يتقبلها وينميها لهم، ويظهر من أعمالهم نتائجها، في الدنيا والآخرة”.
إذا مشاريع الجهاد والاستشهاد لن تموت بموت أصحابها بل سينميها الله تعالى ويكثرها ويضاعفها، ويظهر نتائجها في الدنيا قبل الآخرة، وهذا حال قضية فلسطين والأقصى المبارك، هي قضية جهاد واستشهاد حتى يتحقق المراد، وفي ظل هذه الآية الكريمة نفهم سلسلة الشهداء وفي مقدمتهم القادة العظام الذي قدموا أنفسهم في سبيل الله نصرة للمسجد الأقصى وفلسطين كيف لم تمت قضيتهم بل هي في نمو وكثرة ومضاعفة، من قبل استشهاد الشيخ عز الدين القسام عام 1935م حين رفع لواء الجهاد في عدد محدود من صحبه في وجه بريطانيا والعصابات الصهيونية، وبعد أن استشهد كبرت قضيته وما تزال حية وستبقى، ثم استشهاد الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله عام 1949م، الذي اغتيل بطلب من سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا بسبب إدخاله لكتائب المتطوعين إلى فلسطين لقتال الصهاينة عند إعلان دولتهم، هذا الرجل الذي حُورب حيا وميتا، ولا يزال يشوّه هو ودعوته إلى الآن، وما ذلك إلا لأنه أول من حارب الكيان الصهيوني عند نشأته؛ ولأن حماس والقسام ما هم إلا فرع لجماعته الإخوان المسلمون، فالغرب يحمّله مسؤولية المقاومة التي تقف في وجه مشاريعه إلى الآن، واستشهد البنا وما تزال فكرته روحا تسري في الأمة وما تزال دعوته حية وستبقى. ثم استشهد الإمام القائد أحمد ياسين رحمه الله عام 2004م باغتيال صهيوني جبان بصواريخ الطائرة الأمريكية (f 16)، ومات الشهيد القعيد الذي هزّ أركان الكيان الصهيو-أمريكي، وما تزال حركته الجهادية حية وستبقى.
واليوم يستشهد القائد الفذ يحي السنوار عليه شآبيب الرحمة والرضوان؛ ليكون استشهاده فنا في الاستشهاد!، نعم استشهد الأبطال والقادة قبله وسيستشهدون بعده، ولا نامت أعين الجبناء!، ولا اطمأنت قلوب الخونة!، ولا ارتاحت نفوس المخذلين!، ولكن استشهاد السنوار رحمه الله تعالى جاء في صورة وسياق متميزين، فاستشهاده وثقه أعداؤه، وأعماهم الله فنشروه للعالمين، ليرى الناس جميعا القائد الفذ يجاهد على الأرض إلى آخر لحظة، بما تيسر له، رماهم إلى آخر رمق، حتى رماهم بعصاه مضرب الأمثال، وانتصر على أعدائه حيا وميتا، أما حيا: فهو لم تلن له قناة طول مسار جهاده الذي ثبت عليه أزيد من أربعين سنة (أكثر من ثلثي حياته المباركة)، قضى نصفها سجينا بين يدي أعدائه فما نالوا منه شيئا، وهزمهم في معركة سيف القدس، ثم مرّغ كبريائهم في الوحل في طوفان الأقصى المبارك... إلخ. وأما ميتا: فقد استشهد في ميدان المعركة، قابضا على الزناد، وأسقط باستشهاده دعاوى وأكاذيب صهاينة الغرب وصهاينة العرب، الذي نسجوا حوله الخرافات وظنوه مختبئا في الأنفاق؛ ليفجؤوا به أسدا يواجههم فوق الأرض، وقد فشلوا في اغتياله رغم حرصهم على ذلك، رغم أن غزة الشهيدة قرية صغيرة (360كم2)، وطاردوه بأرقى ما وصل إليه الذكاء الاصطناعي، مدعومين من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وكل الغرب المجرم، وما قتلوه إلا عرضا، وقد كان قريبا منهم طوال عام يقارعهم وينازلهم مع شعبه وإخوانه ويقتل جنود الإرهاب والإجرام، حتى قتل أحد هؤلاء الأوباش في معركته الأخيرة قبل استشهاده، وفوق هذا يصير رمزا عند الأمم جميعا للمقاوم البطل، الذي يقضي حياته مقاوما فداء لشعبه، ويموت مقاوما فداء لشعبه، ومن لطف الله سبحانه أن يسخر أعداءه لتقديم صورة الإباء والشهامة والبطولة التي أنهى بها حياته المباركة، مما لو خطط لها مخطط وتدبر أمرها مدبر لجاءت دون هذه الحقيقة الزاهية للمقاوم الصادق، الذي باع روحه وحياته رخيصة لله تعالى فداء للأقصى وفلسطين وشعبها الأبي.
مهما قلنا في استشهاد السنوار فلن نوفيَه حقه، لكن المؤكد أنه حي خالد، عند الله تعالى وعند الناس، ومن حياته حياة مشروعه الجهادي حتى تحرير فلسطين كل فلسطين، وأقول: لقد استشهد الشيخ عز الدين القسام مع عشرة من المجاهدين عام 1935م فجاءتهم بعد عقود كتائب الشهيد عز الدين القسام بألوف من الأسود، واليوم يستشهد السنوار وستأتيهم بعد سنوات جحافل السنوار لتجتثهم من الأرض، فهذا من معاني حياة الشهداء: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون}، {ويقولون متى هو قل عسى أن يكُون قريبا}.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة