في صحيح الإمام البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: “ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يُشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه”.
الهموم التي تصيب الناس تتفاوت قوة وضعفا، وشرفا وقبحا، فهناك هموم سامية، كهمِّ المسؤول المخلص مع رعيته، كما في الأثر المروي عن الفاروق: “والله لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها، لِمَ لم تُعبِّد لها الطريق يا عمر”، وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حينما أوكل إليه عمر، حين طعن، اختيار خليفة للمسلمين، قال ابن عوف: فوالله لقد لبثت أياما ما اكتحلت عيني بنوم، وشاورت كل المسلمين، حتى إني كنت أدخل على العجائز فأشاورهن في من يصلح خليفة للمسلمين.
ومن الهموم المحمودة ما يقع للداعية الحريص على هداية الناس، فهو يحزن على المسرفين على أنفسهم، ففي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله فقالت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم أشدّ عليك من أُحُد؟ اليوم الذي شُجَّ فيه رأسه، وجرح وجهه، وكسرت رُباعيّتُه، فقال: يا عائشة، لقد كان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال بالطائف، فلم يجيبوني وردُّوا عليّ ردا قبيحا، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فقد خرج عليه الصلاة والسلام من الطائف يمشي على قدميه بين الجبال والوديان والقِفار، وقد قارب عمره الخمسين، فمن شدّة الهم والغم، لم ينتبه لهذا الطريق وطوله.
ومن الهمّ ما يقع في قلب الصادق إذا كُذِّب، كما وقع لزيد بن الأرقم رضي الله عنه، وكان غلاما خرج مع رسول الله في غزوة بني المصطلق، فجلس مجلسا، فسمع عبد الله بن أُبَيّ المنافق يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ينبز بقوله ذاك رسول الله، قال زيد: فأخبرت بذلك رسول الله، فدعا ابن أبيٍّ فسأله، فراح يقسم الأيمان المغلَّظة أنه ما قال ذلك، يقول زيد: فأصابني من الهمّ ما الله به عليم، وكنت على ناقتي، فمرّ بي صلّى الله عليه وسلم ففرك أذني وضحك، ثم مرّ بي عمر فقال: أبشر، فلما اجتمع صلّى الله عليه وسلم مع أصحابه قرأ عليهم سورة (المنافقون)، وفيها فضح الله تعالى ذلك المنافق: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذلّ، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون}.
ومن الهموم ما يحصل بسبب التهم الباطلة، كما وقع لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما اتهمت بالإفك حتى برّأها الله تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم}، قال الحافظ ابن كثير: هذه الآيات نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله تعالى لها ولنبيه، فأنزل الله براءتها، صيانة لعرض الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، فقال: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة} أي: جماعة منكم، يعني: ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة، فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وبقي الأمر كذلك قريبا من الشهر حتى نزل القرآن يبرئها.
ومن الهموم التي يؤجر المرء عليها حزنه لفوات الطاعات، كما قال الحق سبحانه عن فريق من المؤمنين جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام يريدون الخروج معه للجهاد في غزوة تبوك، فلم يجد مركبا يحملهم عليه وردّهم، فرجعوا باكين مهمومين: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم، قلت لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون}.
إن مما ينبغي الانتباه له أن نعلم أن الدنيا لا تصفو لأحد، حتى لو كان ملكا عظيما تتراقص الدنيا من حوله، إلا أنه قد ينزل بقلبه هم وغم لا يدفعه عن نفسه بمال ولا طب ولا مستشارين، ولا يرفعه إلا الله سبحانه، فإذا ابتلي الإنسان بموت حبيب أو ضياع مال فصبر، صار كما قال المصطفى صلّى الله عليه وسلم: “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن”. وللهموم أنواع من الأدوية الناجعة، منها استشعار المسلم تكفير الذنوب بهذه الهموم، يقول الإمام أحمد رحمه الله: لولا المصائب تنزل بنا، لقدمنا على الله يوم القيامة مفاليس.
*إمام مسجد عمر بن الخطاب
- بن غازي - براقي