
38serv
أكد مفتي الأغواط العلامة الشيخ التواتي بن التواتي، صاحب كتاب "الدر الثمين في تفسير الكتاب المبين"؛ في عشرين مجلدًا، وكتاب "التفسير اللغوي للقرآن الكريم"؛ في أربعين مجلدًا، في حوار مع "الخبر"، أكد أن "كل التفاسير مفيدة في بابها، ونافعة في مقصدها، وكل مفسر يقصد خدمة كتاب الله"، موضحا أن "هذا الإرث من الكنوز من التفاسير تركها سلفنا الصالح أمانة في أعناقنا لنستفيد منها فتطهر قلوبنا وتبصر ونستضيء بها لفهم القرآن الكريم"، لافتا إلى أنه "استفاد من هذه التفاسير"، لكن كانت له "رؤية خاصة"؛ وهي أنه رأى الناس "عن القرآن عازفين"، فأراد أن "يحملهم إلى القرآن، ويحمل القرآن إليهم"، مؤكدا أن المنهج الذي اعتمده في تفسير القرآن الكريم هو المزج بين التدريس والتأليف".
ما هي ظروف ودوافع إصداركم لهذا التفسير الضخم للقرآن الكريم؟
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.. قبل الإجابة عن الأسئلة الموجهة إلي، أذكر أمرا ذكره العلماء في تقسيم علوم الشريعة، فقالوا: العلوم ثلاثة أنواع، علم نضج واحترق، وعلم نضج وما احترق، وعلم ما نضج وما احترق.
أما العلم الذي نضج واحترق فهو علم الفقه وأصوله، فهذا قد صاحب الشريعة، فالصلاة بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أحكامها وفرائضها وسننها وفضائلها وعدد ركعاتها، وبالقول الموجز لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لذلك الأعرابي: "الصلاة أربع، فأربع، وثلاث بعدهن أربع، وصلاة الفجر لا توضع."
أما العلم الذي نضج وما احترق فهو علم اللغة، ورغم سهر النحاة الأوائل واللغويين وما تركوه لنا من معاجم، فإن اللغة ما زالت مادة مستمدة، فهي داخلة على لغات فنسختها، ودخلت عليها لغات فما زحزحتها. وإذا قلنا إن الدراسات اللغوية قد درست، فقد حكمنا على اللغة بالموت، فما زالت الأجيال تُجدِّد في أساليبها وفي معانيها. قال الإمام الشاطبي: (قال الإمام الشافعي: "وعلى الناظر في كتاب الله أن يكون عميق المعرفة بلغة القرآن كالخليل وسيبويه، وإن لم يطالب أن يكون حافظا كحفظهما؛ وإنما أن يكون على دراية واسعة بلغة القرآن)".
أما العلم الذي ما نضج وما احترق فهو علم التفسير، فإن القرآن الكريم وقراءاته المتعددة صالح لكل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
في ظل تعدد مدارس التفسير، ما المنهج الذي اعتمدته في هذا التفسير؟
إن كثرة التفاسير عبر العصور دليل على عناية الأمة بكتابها وتدبرها لآياته. وإن أي مفسر تعرَّض للقرآن، فهو يصدر عن بيئته وحاجاتها، مستلهمًا مما في القرآن من أسرار. وإن هذه التفاسير، على كثرتها، تستمد من بعضها البعض، وهي لا تختلف في المقصد، وإنما تختلف من حيث معالجة الآية وتطبيقها على الواقع.
كم استغرقكم تفسير القرآن الكريم من وقت؟
أما عن أسباب تأليفي والوقت الذي استغرقته في ذلك، فقد بدأت التدريس في المساجد، وكنت أركز على الفقه المالكي بالأدلة، فنتج عن ذلك تأليف "المبسط في الفقه المالكي بالأدلة" في ستة أجزاء، طُبع منها خمسة، وبقي السادس لم يطبع.
وحدث أن شيخا من شيوخ العلم، وهو العلامة الشيخ أحمد قصيبة رحمه الله، كان يحضر دروسي، فاستضافني في بيته وأكرمني، ثم وجّهني قائلا: "لو أنك تزاوج بين الفقه والتفسير، فتجمع بين الأصل والفرع، فيكون أنفع للناس."
وكانت هذه النصيحة بمثابة نقطة تحول في مسيرتي العلمية، حيث بدأتُ أجمع بين تدريس الفقه والتفسير، فكنتُ أخصص ليلة للفقه وليلة للتفسير، واستمر هذا النهج ما يقارب ثلاثين سنة.
وهنا أذكر موقفا له دلالة عميقة، حين جاء الأستاذ المفكر مولود قاسم رحمه الله إلى ولاية الأغواط في مهمة سياسية حزبية، وامتلأت القاعة بالحاضرين. وعندما نظر حوله، سأل: "أين الشيخ أحمد قصيبة؟"، فقيل له: "لم يُستدعَ". عندها، نهض مولود قاسم وقال قولته المشهورة: "جلسة يُهمَّش فيها العلماء ويُغَيَّبون، لا خير فيها!". ما يدل على احترامه للعلم والعلماء وهي غائبة اليوم؟! ثم غادر القاعة، معبرا بذلك عن موقفه الواضح في أهمية حضور العلماء في أي مجلس يناقش قضايا الأمة.
ما الذي أضافه تفسيركم الجديد، في ظل كثرة التفاسير القديمة والحديثة، خاصة من قبل الجزائريين؟
إن كل التفاسير مفيدة في بابها، ونافعة في مقصدها، وكل مفسر يقصد خدمة كتاب الله. أما العبد الضعيف، فقد استفاد من هذه التفاسير، ولكنه كانت له رؤية خاصة، إذ رأى الناس عن القرآن عازفين، فأراد أن يحملهم إلى القرآن، ويحمل القرآن إليهم، وكان يُعنون بعض المواقف بقوله: "الآية وواقع الناس"، وتارة أخرى بـ "ما يستفاد من توجيه الآية".
هذا باختصار، أما بالنسبة للعبد الضعيف، فإن له تفسيرين:
1- تفسير موسوم بـ "الدر الثمين في تفسير الكتاب المبين"، وهو تفسير فقهي، حيث يتعرض صاحبه إلى الأحكام الفقهية، ويشير كذلك إلى بعض القضايا الأصولية؛ وهذا التفسير يقع في عشرين مجلدًا.
2- التفسير الثاني تفسير لغوي، ويقع في أربعين مجلدًا، حيث يتعرض إلى مفردات القرآن ومدى تأثر الناطقين بالعربية من السلف بلغة القرآن.
كيف تنظرون إلى تراث المفسرين، خاصة في وقتنا الحالي؟
إن هذا الإرث من الكنوز من تفاسير تركها سلفنا الصالح أمانة في أعناقنا لنستفيد منها، فتطهر قلوبنا وتبصر ونستضيء بها لفهم القرآن الكريم، وكل مفسر تدبر القرآن بما أتاه الله من فهم وقدمه للأجيال ليستنيروا به.
ولا شك أن هؤلاء بذلوا وسعهم لتبليغ رسالة القرآن فجزاهم الله عنا خيرا، وإن كل منتقص لعملهم ما هو إلا جاحد عاجز أو في قلبه دغل ولا خير فينا إذا عاب آخرنا من سبقنا في الميدان، وكل واحد منهم يقتبس ويلتمس من مشكاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعملا بقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}.
أما منهجي؛ فقد كان التفسير درسا وتصنيفا، أي أني مزجت فيه بين التدريس والتأليف، وقد أُقيمت على هذا التفسير دراسات أكاديمية وبحوث جامعية في الوطن وخارجه، ومن بينها دراسة أحد الباحثين في الأردن، حيث قام بدراسة هذا التفسير في أطروحة دكتوراه دولة.
ما حجم الإسرائيليات في هذا التراث التفسيري؟
حرصتُ فيه على تجنب ما يسمى بالإسرائيليات، وحاولتُ أن أغلق الباب أمام كل صائد في المياه العكرة. لذلك، فإن الأحاديث التي أوردتها كلها محققة. أما السبيل لتنقية هذا التراث منها؛ فبتجنبها وتحقيق صحتها.
أخيرا.. باعتباركم أستاذا بجامعة الأغواط، كيف تقيّمون خريج الجامعات الجزائرية في اختصاص تفسير القرآن الكريم؟
الآن، وقد أوشكتُ على دخول العقد التاسع من عمري (90 سنة)، لم أعد أُدرِّس في الجامعة، وإنما أدرّس في الجامع، حيث أرى أن هناك حاجة ملحّة لإيصال العلم الشرعي للناس، بعيدًا عن قيود المناهج الأكاديمية التي قد تحدّ من عمق الطرح في بعض الأحيان.
وقد وجدتُ أن كثيرا من الجامعات في قسنطينة، وتلمسان، والأغواط، وغرداية وعنابة قد اتخذت التفاسير ميدانا للبحث - ومنها تفسير "الدر الثمين في تفسير الكتاب المبين" - مرجعًا للدراسات اللغوية والفقهية، مما يعكس أهمية هذا العمل، ويدفعني للاستمرار في البحث والتعليم.
ختامًا، ما ذكرته لكم هو إجابة عن جميع الأسئلة التي وُجِّهت إليّ، وهو شهادة صادقة على مسيرة علمية امتدت لعقود، كان هدفها الأول والأخير خدمة كتاب الله، وتقديمه بأسلوب يفهمه الناس ويستفيدون منه في حياتهم اليومية. والله ولي التوفيق.