+ -

لماذا يتهافت مسؤولونا ووزراؤنا على الظفر بقطعة قشابية أو برنوس وبري من ولايات يزورونها في السنة عدة مرات، في إطار زيارات العمل أو في المناسبات الدينية والخاصة مثل الأعراس؟ الجواب القادم من تلك الولايات أن قشابية واحدة أو برنوسا واحدلا يكفي.. فمنهم من يطلبه هدية دون حرج، بغرض إعادة إهدائه للتقرب به لولي نعمته أو خليفته..أجمع الكثير من مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي بالمسيلة مؤخرا، على ضرورة شن حملة واسعة لمطالبة عشرات المسؤولين المحليين الذين تعاقبوا على الولاية والحاليين منهم، باسترداد الهدايا التي تحصلوا عليها بمناسبة تقلدهم مسؤوليات في هذه الأخيرة، وهي، إن لم يتهم هؤلاء بالمبالغة، عبارةعن برانيس وقشابيات من طراز فريد تساوي قيمتها مجتمعة الملايير، هذا إن لم تضاهِ في قيمتها تلك التي يوسم بها السجاد الإيراني أو المغربي من حيث الشهرة واستحالة الاقتناء من أي مكان آخر، فما بالك إذا ما تعلق الأمر بالبرنوس والقشابية البوسعادية ذائعة الصيت. يأتي هذا المطلب الذي بدأ تعاطي البعض معه من باب الطرفة ليس إلا، واعتبروا مسألة التجاوب معه من قبل المسؤولين أمرا غير وارد، غير أن بعض الأصوات التي دعت إلى تنظيم ما يشبه الحملة أو النداء على حد ما جاء في العديد من التعليقات الفايسبوكية، ارتكزت على شعار “لا ولن يكون المرزوقي أكرم من مسؤولينا”، في إشارة إلى الخطوة القيمة التي قام بها الرئيس التونسي المؤقت عقب تنحيه عن السلطة، والمتمثلة في جرد كل ما تحصل عليه من هدايا عندما كان رئيسا للجمهورية، ووضعها تحت تصرف خزينة الدولة التونسية للمساهمة على الأقل، كما جاء في رسالة بهذا الخصوص، في تنمية بلده، باعتبار أنه لولا المنصب الذي كان يتقلده لما حظي بكل تلك الهدايا.! فالأولى بمسؤولي ولاية المسيلة والولايات التي تشتهر بحياكة القشابيات والبرانيس، أن يساهموا ولو بالقليل من الهدايا التي تحصلوا عليها في زمن البحبوحة ليساهموا بها، تيمنا بالمرزوقي، لرد الجميل للدولة التي سهلت لهم الطريق للوصول إلى مناصب المسؤولية.مسؤولون يتنافسون على تحطيم الأرقام القياسيةتشير بعض الأرقام لناشطين في متابعة الأيام التكريمية في المسيلة، إلى أن واليا سابقا خرج من الولاية بأزيد من 115 ما بين برنوس وقشابية من النوع الوبري الثمين، ناهيك عن عشرات المديرين التنفيذيين الذين حظوا بالتكريم عدة مرات، يقول البعض إن هذا من شيم سكان المنطقة، رغم أن ما قدمه هؤلاء هو من مهمات مدفوعة الأجر، وقدر أحد الناشطين أن قيمة البرنوس والقشابية المهداة قد يصل إلى 20 مليون سنتيم للقطعة، ومن له القدرة على مجاراة جدول الضرب فعليه بضرب المبلغ في زيارات مسؤول لـ47 بلدية، كل من هذه الأخيرة لا ينزل سقف الضيافة فيها عن برنوس أو قشابية، وإسقاط الأمر على عشرات المسؤولين الآخرين، حتى أن بعض الناشطين قاموا بمتابعة زيارات المسؤولين والتقطوا لهم صورا في الذهاب والإياب على طريقة “رايح بكوستيم راجع ببرنوس”...وللوزراء نصيبهم أيضايعد بعض الوزراء في حكومة عبد المالك سلال من أكثر المسؤولين حظوة واستفادة من هذا الريع الخاص، حتى أن بعضهم لما ذاق حلاوة الهدية لم يصبر عليها.. والحصيلة زيارات مكوكية للولاية من قبل وزير الموارد المائية حسين نسيب التي فاقت 6 مرات في مدة زمنية لا تتعدى السنتين، بواقع برنوس أو قشابية كل زيارة، خلاصة نشاط وزاري حضرت فيه هذه الأخيرة وغاب فيه الماء ومشاريع التحويلات وغيرها.وحضر الوزير عمار غول وقبله عمار تو وغابت مشاريع السكة الحديدية ومعضلة النقل ومشاريع تحسين وضعية الطرق ونحو ذلك، حتى أن اصطناع زيارة، ولو لتدشين المدشن، لتلقي عوائدها.وزيرة السياحة استثناء.. إلا إذا..يتساءل الكثير من الناشطين عن نوع الهدية التي تكون حظيت بها وزيرة السياحة يمينة زرهوني وقبلها وزيرة الثقافة نادية لعبيدي، بحكم أن القشابية والبرنوس ألبسة رجالية، ليأتي الجواب سريعا: وهل في الجبة التقليدية أم 15 و20 مليون من حرج؟ وفي المحصلة “عيب الخروج والأيدي فارغة”.هدية السنة الجديدةومن القصص التي يتناقلها البوسعاديون وجيرانهم الجلفاويون أن ورشات حياكة البرانيس والقشابيات تتلقى مع كل خريف مئات الطلبيات بل الآلاف من مؤسسات رسمية في الدولة، وبشروط صارمة تتقدمها “النوعية الجيدة والوبر الصافي”.. لتذهب في شكل هداية بمناسبة حلول العام الجديد.. ولا تخلو خزانة أي وزير أو مسؤول محلي من قشابية أو برنوس، يظهر به في المناسبات الدينية وفي تنقلاته التنكرية بين المناطق وفي التجول به في القرية مسقط رأسه.الجلفاوي بسعود محمد.. المهنة موروثة أبا عن جد يعتز بسعود محمد البالغ من العمر 59 سنة بمدينة مسعد ولاية الجلفة، بمهنة خياطة القشابية، كونه توارثها أبا عن جد في تواصل للأجيال، وأشار إلى أن خياطة القشابية على نوعين: الخياطة بواسطة ماكنة الخياطة، وهذه لا تتطلب جهدا ولا وقتا كبيرا، حيث تتميز ببساطتها وبسرعة إنجازها الذي لا يتجاوز ساعة واحدة فقط، وتباع بثمن زهيد ينزل إلى ألف دينار. أما الخياطة المحلية للقشابية فتستغرق أسبوعا على الأقل، بالنظر للوقت الذي تأخذه والجهد الذي تتطلبه الخياطة. وبالإضافة إلى ماكنة الخياطة، يتم أيضا خياطتها من حيث طرزها وتدقيق زركشتها بخيوط ملونة، لاسيما اللون البني والأصفر، وترتبط بالمنطقة، حيث يتم إضافة أقفال (أزرار)، بواسطة اليد، وذلك بتدقيق كبير يهدف للوقوف على جمال ورونق القشابية التي يكون نسيجها من وبر الإبل الصافي، حيث تتميز بخفة الوزن وجمال اللون والمظهر، ويفوق سعر خياطتها باليد 20 و30 ألف دينار جزائري.هكذا تحاك القشابية أو الجلابية الجلفاوية من وبر الإبل إلى هدايا على أكتاف الرجال يتنافس الأثرياء في اقتنائها ويعتبرونها أعظم هدية تقدم لكبار المسؤولين وذوي السلطة والجاه والنفوذ، تنطبق عليها المقولة “ما خف حمله وغلا ثمنه”، ومع أن وزنها بالكاد يصل 1 كغ، فإن الثمن قد يصل 20 مليون سنتيم. إنها الهدية المنسوجة من “وبر الجمال”، جلابية كانت أو برنوسا، ظلت تحافظ على مكانتها على مدى القرون المتعاقبة، رغم ما خرجت به المصانع من ألبسة وما حاكته من ثياب تنوعت أقمشتها وتفننت خياطتها وحياكتها، فما سر هذا التصدر الخالد؟ وكيف بقي البرنوس أو الجلابية الوبريان مطلبا غاليا؟ هل يكمن الأمر في ثمن مواده الأولية أم في طريقة الإعداد والتحضير؟ أم في فوائدها؟ أم في كونها موروثا له مكانته التاريخية عندنا في الجزائر وبلاد المغرب العربي بشكل عام؟حملنا هذه الأسئلة باحثين عن صناع الجلابية أو البرنوس، من لحظة جمع المادة الأساسية الأولى المتمثلة في الوبر، إلى غاية خياطتها وتقديمها بضاعة في السوق أو هدية لمسؤول، وكانت وجهتنا إلى النساء اللائي احترفن مهنة نسيجها إلى تجارها وبعض الأعيان ممن اختصوا في اقتنائها ومعرفة اختيارها، ولعل الحديث لا يكون إلا عن الجلابية أو البرنوس المنسوج من الوبر الخالص وليس المغشوش أو المخلوط مع الصوف أو حتى المستورد والمقلّد، فالوبر عند الجمال يقابل الصوف عند الأغنام، وإذا كان الموّالون يقومون بانتزاع صوف الماشية مع نهاية فصل الربيع، فالجمال تتأخر عن ذلك إلى الصيف، ويتم انتزاع وبرها بعناية ودقة فائقة، ويحرص مربوها على عدم خلط وبر الجمال الصغيرة السن مع وبر الجمال الكبيرة والطاعنة في السن، لأن وبر الصغير الذي يطلق عليه “المخلول” يكون ناعما رطبا وقليل الشعر والزغب، ما يجعل ثمنه غاليا في السوق، إذ يتراوح سعر الكيلوغرام الواحد منه بين 8 آلاف دينار ومليون سنتيم، ويطلقون عليه اسم “العقيقة”، في حين ينزل وبر الجمال الطاعنة إلى ما بين 5 آلاف دينار و7 آلاف دينار. وهناك الوبر المستورد من العراق أو ليبيا الذي يباع بنحو 7 آلاف دينار لأنه يكون نظيفا بعض الشيء ولا يرمى بنصفه في أثناء تصفيته وتنظيفه، لأن مرحلة التصفية والتنقية كما تطلق عليها النساء الممتهنات لهذه الحرفة هي أصعب المراحل وأطولها، كما روت لنا الحاجة “الزهرة” خبيرة في مجال نسيج الجلابيات، حيث يتم شراء الوبر من التجار المتخصصين في ذلك، فالجلابية تتطلب شراء 3 كغ من الوبر، أما البرنوس فقد يصل إلى 4 كغ (الأمر يتعلق بالرجل الكامل طولا وعرضا وتنقص كلما نقص الطول والعرض) باعتبار أن مرحلة التصفية والتنظيف قد تذهب بنصف الكمية سواء في الجلابية أو البرنوس، بحيث تضع المرأة هذه الكمية أمامها وتبدأ بمرحلة التصفية الأولى توزعه أجزاء صغيرة وعلى ضوء النهار، ولو تطلب الأمر ارتداء نظارات وانتزاع كل شائبة من شعر خشن أو لونه أبيض أو زغب أو ذرات، ورميها، ووضع الكمية المنظفة جانبا، فتظهر فيها مجموعة ألوان متدرجة بين البني أو الأصفر أو الأحمر قليلا، وهذه المرحلة قد تأخذ شهرين إذا لم تجد المرأة من يساعدها، لتأتي مرحلة جمع الوبر المصفى ولكن كل لون لوحده في أكياس بلاستيكية نظيفة، ثم يؤتى بآلة تسمى “المشط” لها أسنان من حديد مصففة كأسنان المشط، لكنها حادة كالإبر الغليظة، تأخذ المرأة جزءا من الوبر مع المحافظة على كل لون لوحده، وتضغط به على تلك الأسنان الحديدية وتمررها، فتعلق الشوائب والأتربة التي لم تقدر أيدي المرأة على انتزاعها في المرحلة الأولى، وتعيد كل مجموعة إلى كيسها، لتأتي مرحلة ثالثة تستخدم فيها آلة خشبية انتظمت عليها أسلاك رقيقة جدا وحادة تشبه مشط الشعر تسمى “القرداش”، تتكون من فردين اثنين، الهدف منها خلط تلك الألوان المتقاربة بأن تأخذ المرأة من كل كيس كمية صغيرة، وتمزج وتوضع على سطح مسامير الفردة الأولى من القرداش، وتضع المرأة الفردة الثانية فوقها وبحركة ذهاب وإياب بين فردتي “القرداش”، تمزج تلك الألوان فيما بينها فتصبح لونا واحدا وتخرج على شكل صفيحة من وبر ازدادت نظافة وتصفية، وتوضع جانبا، وهكذا حتى تكتمل الكمية الموجودة في الأكياس وتصبح لونا موحدا، وعادة ما يكون بنيا فاتحا، توضع هذه الصفائح على بساط من كتان نظيف ومساحة واسعة، ثم تأتي المرأة بعصا رقيقة وطويلة مصنوعة من الصفصاف، وتشرع في ضرب هذه الصفائح ضربا يستقصيها كلها، والهدف تأكيد الخلط والمزج بين الألوان وتوحيدها كما تؤكد التنظيف والتصفية والتنقية.وبعد هذا يتم وزن الكمية المتبقية، وهي الكمية الحقيقة أو الوزن الحقيقي للجلابية أو البرنوس، وتوضع في كيس كبير نظيف لتبدأ عملية ثانية بواسطة “فردتي القرداش”، حيث يتم وضع كمية على فردة ووضع الفردة الثانية فوقها، وبعملية الذهاب والإياب يتم بسطها كصفيحة، ثم تكويرها طوليا على شكل مخروطي طولي تسمى بـ “الرّيط”، وحين تتم هذه العملية أو تقترب من نهايتها تبدأ عملية غزل هذا الريط من خلال المغزل الذي يجعل منه خيوطا رقيقة جدا، تجمع على شكل دائري كخصلات متعددة، وهذه هي آخر مرحلة في إعداد الوبر وتجهيزه ليكون صالحا للنسيج، ولكن بعد إعداد وسائل النسج بشراء أسطوانات الخيط الرقيق جدا، حيث تباع الأسطوانة بنحو 500 دينار لتغطية تصفيف هذا الخيط الرقيق من خلال طريقة خاصة وخيوط معينة، ثم توضع هذه الخيوط التي تشكل هيكل الجلابية على أعمدة خشبية طويلة وأفقية، ومعها قصب يفصل بين الأجزاء العلوية والسفلى.وأما آلة النسيج فهي عبارة عن يد حديدية، معصمها من خشب وأسنانها من حديد نظيف، أسنانه مثل أسنان المشط في التساوي والحدّة تسمى “الخلاّلة”، وتنسج المرأة على مراحل تمتد لـ20 يوما أو أقل، ثم تقص الخيوط الزائدة. وتستخرج الجلابية التي تكون عبارة عن قطعة طولها 3 متر وعرضها 1.5 متر، تباع في السوق بأغلى الأثمان، حتى إنها تصل إلى 15 مليون سنتيم. وأما خياطتها باليد خالصة فتصل إلى ثلاثة ملايين سنتيم.وأما إذا كانت بواسطة آلة الخياطة فتنزل إلى 8000 دينار، وحين ارتدائها يجدها المرتدي خفيفة، جدا لكنها تمنع دخول الرياح أو تسرّب المياه، ولا يختلف البرنوس عن الجلابية في المراحل الأولى إلا في طريقة النسيج فإنها تصعب، لأن البرنوس يتميز بالأجنحة، وهو ما يفرض انحرافات طولية في مراحل معينة، ويتطلب نسيجا مستقلا لغطاء الرأس، مثلما يتطلب فيما بعد خياطة خاصة، وهو أكثر وزنا من الجلابية وأطول وأغلى، فقد تصل إلى 20 مليون سنتيم.وقد قام الحاج محمد مكاوي، أحد المهتمين بتجارة البرانيس والجلاليب الوبرية، بعملية حسابية، فثمن المواد الأولية للجلابية أو البرنوس قد يصل إلى 4 ملايين سنتيم، لكن إعداده وتحضيره متعب جدا، ويتطلب دقة ما بعدها دقة في التنظيف، لأن الوبر لا ينظف بالماء أو الصابون كما هو حال الصوف، وكثير من النساء كما حدثتنا الحاجة الزهرة أصبن بضعف البصر وانحناء الظهر وجفاف بشرة اليد وتأثيرات أخرى على جهاز التنفس لما يتطاير من غبار رقيق وزغب وشعر، ولعل هذا كان سببا في غلائه وعلو شأنه.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: