البدو الرحل.. مجهولون بالحالة المدنية ومهمشون في الواقع

+ -

تفضَّل عائلات البدو الرحَّل بالجزائر قضاء صيفها بالولايات السهلية، هروبا من حرارة الصيف المرتفعة بالولايات الصحراوية وبحثا عن الكلأ والمراعي لمواشيهم، وقد أصبح انتشار خيم هذه العائلات بولاية باتنة، مثلا، منظرا مألوفا خلال كل فصل صيف، إلا أن ما ميز المواسم الأخيرة هو تزامن شهر رمضان الفضيل مع فصل الصيف ما أعطى طابعا خاصا لنمط حياتهم، مجبرا إياهم على مراعاة خصوصية الشهر العظيم. إن ما يشد انتباه الناظر أو المسافر خلال أيام الحر هذه، أو باقي أشهر السنة أثناء مروره ببعض الطرقات الوطنية والولائية أو حتى البلدية منها على مستوى عاصمة الأوراس باتنة، تلك الخيم أو ما يطلق عليه السكان المحليون “العشش” المصنوعة من الحلفاء وبعض الحشائش اليابسة والعرعار التي تتخذها عائلات البدو الرحل سكنات مؤقتة لها قبل الانتقال إلى أماكن ومناطق أخرى بحثا عن سبل حياة لهم ولمواشيهم التي لا تفارقهم في رحالهم وترحالهم، والتي تمثل المورد الوحيد لمعيشتهم المعدمة.كبار السن يقضون أغلب يومهم في الرعي ولا مكان إلا للقليل من النوماستفسرت “الخبر” الشيخ (بلقاسم. ب) 63 سنة القادم من طولڤة بولاية بسكرة عن يومياته خلال أيام فصل الصيف وخلال شهر رمضان، فكانت الإجابة أنه يخصص أغلب يومه للرعي حيث يباشر يومه في رعي الأغنام والماعز منذ السادسة صباحا ليوردهم حوالي الساعة العاشرة من أجل شرب الماء، ويعيدهم بعد ذلك للرعي مرة ثانية إلى حدود الساعة الواحدة زوالا، لتنطلق الفترة المسائية بداية من الساعة الرابعة مساء وإلى قبيل غروب الشمس، كما أكد عدم نومه خلال الفترة الممتدة من صلاة العشاء إلى وقت أذان الفجر، وذلك يعود، حسبه، إلى المسؤولية الكبيرة الخاصة بحراسة المواشي، خصوصا أنه عامل فقط وليس صاحب المواشي، لنسأله عن الأوقات التي ينام فيها، فأجابنا بأنه ينام خلال فترتي القيلولة والحيلولة، هذه الأخيرة التي تعني النوم بعد صلاة الفجر، أما صلاة التراويح في شهر رمضان فقد أخبرنا الشيخ بلقاسم أنه كان يؤديها المواسم الماضية بسبب قرب المسجد من خيمته، إلا أن بعده عن المسجد هذا الموسم حال دون ذلك خوفا من تعرض مواشيه للسرقة.الشباب يتكفلون بالتسوق وللأطفال مهمتهم الخاصةيوميات “زيان. ب« البالغ من العمر 22 سنة كانت مختلفة نسبيا عن الشيخ بلقاسم، فهو ينهض في حدود الساعة الخامسة والنصف صباحا، حيث يساعد في إخراج المواشي إلى المراعي، ليتنقل بصهريج المياه حوالي  أربعة كيلومترات من أجل ملئه لسقي المواشي، بالإضافة إلى توجهه بالشاحنة إلى الأسواق والمحلات التجارية القريبة للتسوق واقتناء الحاجيات المنزلية، كما يعمل أحيانا على العمل بالشاحنة مع مزارعي المنطقة من أجل إيصال مختلف المواد الزراعية والحبوب بمقابل مادي قصد مساعدة العائلة، أو نقل المواشي إلى الطبيب البيطري. وعن الوقت الذي يقضيه بعد مغرب كل يوم فأجاب زيان بأنه يتوجه إلى أحد المقاهي القريبة لتبادل أطراف الحديث مع الأصدقاء قبل أن يعود إلا المنزل وحراسة المواشي، كما توكل مهمة رعي الأبقار للأطفال.حياة دون كهرباء وماء خلال الشهر الفضيلزيادة على حرارة الصيف، خلال شهري جويلية وأوت وطول ساعات أيامهما، يشكِّل غياب الكهرباء والماء أهم العوائق التي تزيد من معاناتهم، حيث إنهم جربوا تشغيل التلفاز ببطارية الشاحنة، ليتخلوا عنه بعد ذلك بسبب عدم امتلاكهم لبطارية مخصصة لهذا الغرض، وهو ما يعني عدم قدرتهم على استعمال الأجهزة الكهرومنزلية الضرورية كالثلاجة لحفظ المواد الغذائية وتبريد الماء، والمروحة لتبريد أو تلطيف الجو الساخن الذي تعرفه الخيمة، في حين يقدم لهم الجيران الماء الشروب قبل ساعة أو ساعتين من أذان المغرب في شهر رمضان، وذلك بشكل يومي.

البلاستيك يكسو الخيمةوإذا كانت الخيمة المتكونة من شعر الماعز الممزوج بصوف النِعاج تسمح بتلطيف الجو نسبيا، فإن هذا الأمر لم يكن متوفرا في خيمة إحدى العائلات التي استخدمت مادة البلاستيك لوضع خيمتها، وهذا بسبب عدم إتقان هذا الجيل للآليات التي من خلالها يتم صنع الخِيم من الوبر وصوف المواشي، في ظل الوفيات التي طالت كبار السن الذين يجيدون هذه الصِنعة دون صغار السن.كما تزيد مادة البلاستيك المشكلة للخيمة الطينة بلة عن طريق زيادة درجة الحرارة داخل الخيمة وعكس أشعة الشمس بشكل يجعل من المكان أشبه بالجحيم، خصوصا وقت الظهيرة التي تعرف ارتفاعا محسوسا في درجات الحرارة، وهو ما ينغص على هذه العائلات النوم وقت القيلولة، كما تزداد درجة حرارة الخيمة مساء بسبب إعداد وجبة الفطور الذي يكون في الخيمة ذاتها.التمر والحليب لا يغادر مائدتهم الرمضانيةالملاحظ في المائدة الخاصة بالبدو الرحل هو التواجد الدائم للحليب والتمر، بالإضافة إلى بعض الأطباق الأخرى المعروفة لدى الأسر الجزائرية، كالشربة “الجاري” والسلطة، بالإضافة إلى المشروبات الغازية والدلاع كتحلية أطباق هذه العائلات، كما أن وجبة السحور تعرف حضورا للكسكسي أو “الطعام باللبَن” والقهوة، ويرجع ذلك إلى رغبات كل فرد فيما يريد تناوله.ورغم كل الصعوبات والمنغصات التي تم ذكرها والتي تطبع أشهر الصيف عند هذه الفئة، إلا أن الصبر على هذه الشدائد وكلمة “الحمد للّه” التي لم تفارق ألسنهم كانت بمثابة كلمة السر في معايشتهم لهذا الواقع المرير، الذي رأوا أنه يمكن أن يُخفف عنهم في حال توفير الدولة لبعض الحلول مثل أجهزة الطاقة الشمسية المعروفة بتكلفتها الباهظة.بعض العائلات رفضت الحديث دون  إذن شيخ العائلةولم يكن الاستقبال الذي وجدته “الخبر” نفسه عند كل العائلات، حيث تميزت بعضها بالتحفظ، والتزمت الصمت وعدم الحديث بأي جملة، وهو دفعنا للاستفسار عن سبب ذلك، ليجيبنا أحدهم ورغم كبر سنه عن كيفية التصرف فيما لو طلب منه والده عن الشخص الذي سمح له بالحديث والخوض في هذه المواضيع، عندما أكد لنا أن والده مسافر إلى قسنطينة وعليه لا يمكن أن يتحدث إلينا، ليكتفي بإيصالنا بشاحنته إلى الطريق التي قدمنا منها إليه.القليل لمواجهة تحديات الحياةوالملاحظ في البدو الرحل المتخذين من الجهة الجنوبية لولاية باتنة مسكنا مؤقتا لهم، على غرار مناطق مخرج مدينة أمدوكال على مستوى الطريق المؤدي إلى بلدية بن سرور التابعة لولاية المسيلة وكل من مناطق ضواحي شط الحضنة والتل برأس العيون وكذا بعضهم في الحدود بين ولايتي باتنة والمسيلة، نلاحظ أن بشرتهم داكنة تميل للسواد بفعل الظروف المناخية والطبيعية الصعبة التي يقبعون فيها منذ ولادتهم والتشققات بأيديهم والإرهاق والتعب الباديين على وجوههم، نظرا لتعرضهم المستمر للفحات أشعة الشمس الحارقة، التي تسببت في إغماءات وإصابات بضربات الشمس للصغار قبل كبار السن، كما أن أغلبهم لا يملك من الملابس الكثير وإنما يكتفون بثياب أكثرها رث وقديم. ومن بين المصاعب التي يواجهها البدو الرحل هذه الأيام الارتفاع القياسي التي تشهده درجات الحرارة، ما صعب على كثير منهم التواجد بالمنطقة، وشعورهم بالعطش الشديد خصوصا واصطدامهم المتكرر بغياب أبسط متطلبات العيش التي تقيهم حر الصيف وبرد الشتاء، كونهم غير مستقرين في أماكن محددة، الأمر الذي يمنعهم من استئجار أو شراء بيوت تضمن لهم الراحة وتخفف عنهم مشقة الترحال المستمر والمتواصل. وقالوا لـ«الخبر” إنهم اعتادوا رغما عنهم على نمط هذه الحياة البدائية، التي يعتمدون فيها على الطرق التقليدية البسيطة التي أكل عليها الدهر وشرب في المدن والقرى والمداشر، من تحضير وجباتهم الغذائية  على الحطب والأعشاب والحشائش الجافة، وشرب ماء “القربة” البارد هربا من مياه الدلاء والقارورات الدافئة التي تزيد من حدة العطش. بينما تجد هذه العائلات ضالتها في الطبق التقليدي المعروف بـ«البربوشة” أو “الكسكسي” مساء كل يوم رفقة أكواب من اللبن الطازج، بعد أن يجتمع أفراد الأسرة الواحدة على مائدة واحدة يلتفون حولها مهما كانت مادة صنعها، ومنهم من يفترشون الأرض والحصيرة.طعام المواشي سبب ترحالهم أكد عدد من البدو الرحل الذين عثرنا عليهم بصعوبة على حدود بلدية أمدوكال واتفق معهم آخرون على مشارف منطقة “عين لحيمر” جنوبي الولاية، والذين يدعوهم السكان المحليين بـ«الغرابة” أو القادمين من الغرب من بلديات بوسعادة وسيدي عيسى وبن سرور بولاية المسيلة، على أنهم يلجأون للترحال بحثا عن الكلأ والماء لماشيتهم، إضافة إلى أسواق الماشية لبيع بعضها لربح بعض المال لاستمرار حياتهم وتلبية حاجياتهم ومتطلبات أسرهم من جانب، وتقليصا لعدد الحمولة التي ينقلونها في كل مرة على متن الشاحنات التي يستأجرها بعضهم من جانب آخر، في حين أن منهم من بات يملكها لنقل ممتلكاتهم بين الولايات أو البلديات التي يقصدونها في كل مرة. ولا ينكر أحد الحوادث المرورية التي يتعرضون لها خلال تنقلاتهم وعدد الضحايا الذي يفقدونه. ولم يجد ما يجيب به هؤلاء على تساؤلاتنا في هذا الجانب سوى أنهم مجبرون لا مخيرون على التنقل بحثا عما تسد به رؤوس أغنامهم جوعها، خوفا من هلاكها وهي مصدر العيش الوحيد للمئات منهم، ولا يكون الاستقرار المؤقت، حسبهم، سوى لأسباب مماثلة أو لزيارة أقاربهم أو للتوقف لعلاج مرضاهم أو التزود ببعض المؤن اللازمة.الوثائق الإدارية والحالة المدنية.. مشكل آخر يعيش أكثرية البدو الرحل دون أوراق ثبوتية، حيث أغلبهم غير مسجل بالحالة المدنية، ومنهم من يزيد عمره بسنوات عن تاريخ ميلاده الحقيقي لتسجيله المتأخر. ومثل هذه الحالات عدد لا يعد ولا يحصى بسبب عامل التنقل المتواصل وعدم التحاق أبنائهم بالمدارس للتعلم، حيث يكتفون بالرعي أو جلب المياه من منابعها أو المساعدة في الأعمال المنزلية بالنسبة للجنس اللطيف.. نستطيع أن نقول عنهم إنهم خارج نطاق الحياة الكريمة ومهمشون بطريقة أقل ما يقال عنها إنها تحت عتبة الفقر المدقع.  

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات