+ -

الأجواء الآخذة في التشكل عبر الشريط الحدودي لولاية سوق اهراس تؤشر على أن الحزام سيضيق أكثر على من يمتهنون التهريب خلال الأشهر المقبلة، نزولا عند اعتبارات تقول عنها الدولة الجزائرية إنها ألحقت أضرارا بالاقتصاد الوطني، فضلا عن التأهب لرد الضربة ضربتين إزاء أي محاولة لنقل الرعب من قبل الإرهاب إلى التراب الجزائري. هذا الوضع بدأ يفرز واقعا جديدا على سكان الشريط الحدودي وباقي المناطق التي اعتاد سكانها على مقاومة الفقر بالتهريب، إذ أن ما لمسناه هو بروز وضع اجتماعي ضاغط، أدخل الكثير من الناس في مأزق حتى الحصول على القوت اليومي، وربما اليأس والبؤس الذي يسكن الشباب لن يشكل إلا وقودا لقنابل موقوتة.32بالمائة بطالة و60 بالمائة طلاق و30 ألف قضية إجرام في السنة!الشريط الحدودي مع تونس حزام واسع للفقر ومظاهر التخلف يحدث ذلك في غمرة غياب مشاريع تنموية في المنطقة، بدليل اعتراف حتى تونسيين بتخلف المناطق الحدودية الجزائرية، حيث لا نقل ولا صحة ولا مشاريع في الأفق، قياسا بما هو عليه الأمر في المناطق الحدودية التونسية. ولهذه الاعتبارات يتساءل أبناء مدينة سوق اهراس عن سبب عدم تنمية المناطق الحدودية على نحو ما تم عندما تم سن برنامج تنمية الهضاب العليا، ويقولون إن حماية الحدود تمر عبر إشراك المواطن بعد التكفل به اجتماعيا، وأوضحوا أن المنطقة لم تأخذ حقها من التنمية رغم الصفحات المشرقة لتاريخها، بل إنها تعيش انحطاطا مقارنة بماضيها المشرق وأعلنوها صراحة “إن الواقع التنموي لا يعكس الماضي الثوري للمنطقة”.الزائر لمناطق الشريط الحدودي بسوق اهراس المتاخمة للأراضي التونسية يقف على أحزمة البؤس والفقر. ففي عز يوم ممطر وبرد قارس بفعل الثلوج التي كست غالبية مناطق الولاية، يصطف تلاميذ بالطور الابتدائي في شبه محطة نقل المسافرين بقلب بلدية حدادة لركوب شاحنة لنقل الأغنام أو السلع، تم تجهيزها بكراسٍ وغطاء (باش) لتصبح واحدة من حافلات النقل المدرسي.شاحنات لنقل التلاميذ!ففي لحظة توقفنا لأخذ صورة للمظهر المثير بعد تخلصنا من هاجس متابعة أعوان الشرطة لنا على طول المسافة الممتدة من مركز المراقبة الحدودي ساقية سيدي يوسف إلى قلب بلدية حدادة، كانوا على متن سيارة من نوع (رونو سينبول) رغم تعرفهم على هويتنا بعد تقديم بطاقة الصحفي ووثيقة التكليف بالمهمة. كان سائق الشاحنة شارد الدهن، منشغلا بربط غطاء الشاحنة (الباش) وتثبيته إلى قضبان حديدية بواسطة حبال حتى لا تكون هناك فجوات تتسبب في سقوط التلاميذ، خاصة أن بعض الأولياء مازالوا يتذكرون جيدا حادث سقوط تلميذة من شاحنة ببلدية المشروحة قبل نحو ثلاثة أشهر، سبب لها جروحا بليغة على مستوى الرأس والوجه وكان محل تعاليق أبناء سوق اهراس على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. وفيما تقول سامية، تدرس بقسم السنة الثالثة ابتدائي: “إننا ننتقل من المدرسة إلى المنزل عبر هذه الشاحنة مند شهور”، يشير عدد من أصحاب سيارات الأجرة بالمحطة، بينهم أولياء تلاميذ، إلى أن تسخير هذه الشاحنة تم بعد ضغط كبير من قبل أولياء التلاميذ، في وقت مازال تلاميذ بعض المداشر ببلديات حدادة، المراهنة، سيدي فرج والحنانشة يقطعون كيلومترات مشيا على الأقدام للوصول إلى مدارسهم، ما يطرح بالتالي تساؤلا أكبر عن جدوى الإصلاحات المزعومة التي قيل إنها مست منظومة التربية والتعليم لكنها لم تلامس البنية العميقة لهذه المنظومة في جانبها الاجتماعي والبيداغوجي وعلاقة ذلك بالتنمية المستدامة.الاختناق..الناس في بلدية حدادة التي لا تبعد إلا بنحو عشرات الأمتار عن المدينة التونسية ساقية سيدي يوسف يبدون كما لو أنهم استيقظوا على وضع جديد وما عادوا قادرين على التأقلم معه، فبعدما كانت الحدود مفتوحة أمام كافة الناس على مدى عشريات لتهريب ما يشاؤون من وقود ومواد غذائية وغيرها، أصبحت اليوم الحدود مغلقة وراح الحزام يضيق على الناس أكثر فأكثر من يوم لآخر ولم يعد التهريب سهلا حتى أمام المغامرين الممتهنين للتهريب على مدى العشريات الماضية، بعد أن تم إحكام الرقابة على الشريط الحدودي من قبل حرس الحدود والأمن الوطني والجمارك. وزاد من تعقد الوضع في الحدود خطر التهديدات الإرهابية، في ظل الوضع السائد في تونس، ما جعل الشريط الحدودي الشرقي يعيش حالة طوارئ وضعت الجيش في حالة تأهب للرد على أي تسلل أو عمل إرهابي. فالمعطيات الجديدة الخاصة بمكافحة التهريب ومحاربة الإرهاب على الحدود تشتغل اليوم في غير صالح السكان الذين اتبعوا خطة مقاومة الفقر بالتهريب، طالما أن حرس الحدود أعطيت له تعليمات تقضي بإطلاق النار على كل مهرب في الحدود، وفي وقت اعترف وزير الداخلية والجماعات المحلية خلال زيارته لولاية تبسة وقال “إن التهريب والإرهاب يحتلان نفس المستوى في الجريمة”.أحمد ومصطفى وسعيد شباب ينحدرون من منطقة حدادة، يحوزون على مستوى دراسي متواضع جدا لا تتعدى أعمارهم الـ35 سنة، اثنان منهم متزوجان وثالثهم أعزب، هؤلاء كانوا في وقت سابق يتنافسون على من يهرب كمية أكبر من الوقود والمواد الأخرى، لكن اليوم انقلب السحر على السحرة، انسدت الآفاق في وجوههم وفي وجه من هم في مثل سنهم ويأسهم، يجرون أنفسهم داخل (قشابيات) بنية اللون وينتقلون من مقهى إلى أخرى والحيرة تملأ عليهم الآفاق كالوسواس، لعل أحدا يعرض عليهم عملا في ورشة من الورشات “وضعنا هنا في حدادة يزداد صعوبة من يوم لآخر والأمر ينطبق على كثير من الشباب، فنحن بطالون، إن لم نعمل من حين لآخر في ورشات البناء فإننا نضيع..”، يقول مصطفى. وسرعان ما يتدخل زميله مقاطعا إياه “يا أخي نحن اليوم محتارون في الحصول حتى على ثمن شراء الخبز وقارورة غاز، ما يجعلنا في كل مرة نستعمل الحطب، خاصة أن الطبيعة قاسية وظروفنا صعبة للغاية”.وفيما يشير بعض المسنين إلى أن الحياة في حدادة على أحسن ما يرام بالنظر لحالة الأمن والسلم السائدة وتوفر الغاز والطرقات والكهرباء.. يطلب منا بعض الشباب زيارة العيادة (متعددة الخدمات) للوقوف على حالتها، فمرة يأتي الطبيب ومرات أخرى يغيب لدرجة أصبح فيها المواطنون يتطفلون على عيادات بلديات مجاورة، بل يقولون إنهم ضحايا دهنيات بيروقراطية، بدليل “أن رئيس البلدية في كل مرة نحاول الالتقاء به لعرض انشغالاتنا ومشاكلنا، يقال لنا إنه لا يستقبل” يقول أحدهم، قبل أن يضيف “نحن إلى غاية الساعة لم نجد مسؤولا نتوجه إليه في البلدية للاستفسار عن مسألة البناء الريفي، فرغم مرور 7 سنوات على إيداع الملفات للاستفادة من الدعم، إلا أنه وإلى غاية اليوم لم يطرأ أي جديد”.وإن كانت آفاق الصيرورة المستقبلية غامضة بالنسبة لشباب هذه المنطقة ممن يعتبرونها حزاما يتناسل الفقر، فإن الحياة بالمدينة التونسية ساقية سيدي يوسف الواقعة على بعد أقل من كيلومتر عن بلدية حدادة بدت زاهية، الناس يبتسمون ويضحكون رغم مخلفات ما أصبح يطلق عليه ثورة الياسمين، نفوس منشرحة في المقاهي تعانق الشيشة بمختلف أذواقها على إيقاع مختلف النغمات الموسيقية، بل وبوسع الزائر أن يقف على نوعية التهيئة الخاصة بالمدينة مرورا بنظافة المحيط وصولا إلى مختلف المرافق المتوفرة من مصحات وأماكن ترفيه ولعب ونقل ومدارس.. ما يجعلك تكتشف الفرق بين مدينتين لا تبعدان عن بعضهما البعض إلا بنحو عشرات الأمتار، واحدة تنتمي للدولة الجزائرية تعتمد بشكل أساسي على الريع البترولي وأخرى تعتمد على السياحة لاتزال مدنها إلى غاية اليوم تستقطب إليها عشرات الآلاف من الجزائريين الباحثين عن الراحة والطمأنينة والمتع والمسرات المفقودة في بلدهم، رغم أن سوق اهراس تتوفر على أجمل وأروع المناظر الطبيعية عبر بلدياتها، تؤهلها لاحتضان مشاريع تنموية بينها منتجعات سياحية وفنادق وأخرى للتنزه والاستجمام.“المهربون هم من تسبب في ارتفاع قيمة الأورو”الشريط الحدودي لولاية سوق اهراس يتواجد به مركزان للمراقبة الحدودية، الأول يقع على خط التماس بين بلدية حدادة ومدينة ساقية سيدي يوسف التونسية ويعرف حركة لا بأس بها، تبعا لما وقفنا عليه من جانب حركة تنقل الاشخاص بين البلدين ودخول وخروج البضائع، ولو أن المستجدات الاقتصادية والسياسية والأمنية خلال السنوات الأخيرة، بينها استتباب الأمن في الجزائر وفي الوقت نفسه انهيار قيمة الدينار، شجعت التجار التونسيين على شراء مختلف السلع والبضائع من الجزائر، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يقول مختصون في الشؤون المالية يسوق اهراس إن سبب ارتفاع قيمة الأورو في السوق الموازية الجزائرية يرجع إلى كون المهربين على الحدود الجزائرية التونسية يقومون بشراء الدينار التونسي من تونس واستعماله لشراء الأورو وبيعه بالجزائر، وقاد هذا الأمر إلى ارتفاع قيمة الدينار التونسي، لأن 100 دينار تونسي أصبحت تعادل 8000 دينار جزائري، ونتج عن ذلك ارتفاع قيمة عملة الأورو، إذ أن 100 أورو يتم شراؤها من تونس بـ216 دينار تونسي، وإذا قمنا بضرب 216 دينار تونسي (في) 8000 دينار جزائري، نحصل على مبلغ 17280 دينار.قنابل موقوتة اسمها اليأس والفقرأما مركز المراقبة الحدودي الثاني فيقع بمنطقة الفويض، على بعد نحو كيلومتر عن المدينة التونسية غارديماو، وهو مركز مراقبة قليل النشاط قياسا بالمركز الأول المعروف شعبيا بالساقية، لأنه معزول نوعا ما بالنظر لموقعه المتميز بتضاريس جغرافية صعبة إن لم نقل خطيرة، فضلا عن صعوبة المسالك والطرق المؤدية إليه وقلة وسائل النقل وأحيانا ندرتها ولاسيما عبر المحور الرابط بين بلدية لخضارة وأولاد مومن المسماة (راس الكاف)، وصولا إلى الفويض، حيث الغابات والطريق الجبلي الذي يأخذ شكل منحدرات ومرتفعات وعرة. وفيما كنا نواصل طريقنا على متن سيارة (كلوندستان) من أولاد مومن باتجاه المركز الحدودي، تراءت لنا على سفوح تلك الجبال المسنة بعض ثكنات جيش حرس الحدود، ما جعلنا نستنتج من كلام السائق الذي قال لنا إننا نعيش في أولاد مومن في أمان وننتقل حتى عند الساعة الواحدة صباحا بسياراتنا ولا نصادف أي شيء في طريقنا، أن الجيش يشكل حصنا منيعا في وجه أي تسلل للجماعات الإرهابية للتراب الجزائري.عندما يأخذ الزائر في النزول عبر منحدر جبلي بأولاد مومن باتجاه المركز الحدودي على بعد كيلومترين، تتراءى له مدينة غارديماو التونسية على بعد نحو كيلومتر. والزائر لمناطق لخضارة وأولاد مومن بوسعه أن يقف على بلديات في شكل مداشر وقرى يمكن اعتبارها حزاما للبؤس والفقر، على اعتبار أن أحد المسنين ممن كان برفقتنا من منطقة لخضارة إلى أولاد مومن، كان يلعن العزلة والحرمان والبطالة، ويقول: “لحسن الحظ أن غالبية شباب المنطقة مازال وفيا للتقليد الذي دأبت عليه المنطقة مند الاستقلال وهو اختيار السلك العسكري على باقي الخيارات الأخرى”. عندما سألناه هل مازالوا حقا على نفس التقليد الذي كان سائدا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي؟ أجاب قائلا: “إلى غاية اليوم بإمكانك أن تجد في كل بيت 4 أو 5 شباب اختاروا السلك العسكري، بل هو تقليد مازال ساريا في تبسة وخنشلة وأم البواقي..”.قبل وصولنا إلى بلدية أولاد مومن التي بدا فيها الناس كما لو أنهم خرجوا من حصار إثر الثلوج التي سقطت عبر ربوع سوق اهراس بعد أن قطعت الطريق الرئيسية المؤدية إليها ونفذت قارورات الغاز وانقطع التيار الكهربائي، مررنا على بلدية لخضارة ووقفنا على نفس مشاهد الحشود البشرية المنكمشة على ذواتها في المقاهي، والمشهد ذاته في بلديات المراهنة، عين زانة وأولاد ادريس، آنذاك عرفت أن اليأس هو البارود السحري الذي تصنع منه كافة القنابل الموقوتة والألغام التي تهدد وجودنا وتقتلنا كل يوم، لأن الفقر سيتحول إلى أم الخبائث، يقود الشباب الفاقد للأمل إلى الإصرار على ممارسة التهريب رغم المخاطر بالنظر لشساعة الحدود البرية، أو المتاجرة في الحشيش أو ركوب قوارب الموت باتجاه الضفة الأخرى للبحر المتوسط الفردوس الموعودة بأوروبا انطلاقا من شواطئ مدينة عنابة المجاورة، أو إيجاد من يقنعهم في تلك الجبال والمناطق المعزولة بأن هناك ما هو أفضل من الهجرة إلى بلاد (فاسقة)، وجهة الفردوس الأخرى التي يعد بها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ويصبحون بالتالي مخططات وأهدافا في الأجندة الخاصة بالمجندين.الحزام سيضيق أكثر على المهربينالأجواء الآخذة في التشكل عبر الشريط الحدودي الممتد من مركز المراقبة الفويض حتى مركز الساقية تؤشر على أن الحزام سيضيق أكثر على المهربين وباروناتهم خلال الأشهر المقبلة، علىاعتبار أنه يجري الترتيب حاليا لإنجاز عدد من مراكز المراقبة بدعم وتعزيز المراكز الموجودة بينها إنجاز مركز مشترك بين البلدين، استنادا لما أفاد به مصدر أمني بالمركز الحدودي للفويض، فيما تشير عناصر أمنية أخرى هناك إلى أن السلطات العسكرية الجزائرية بدأت تأخذ التهديدات الإرهابية على الشريط الحدودي الممتد حتى ولاية تبسة مرورا بوادي سوف وصولا إلى إليزي مأخذ جد، ولعل ما يعكس ذلك الزيارة السرية التي قادت اللواء مناد نوبة، قائد قوات الدرك الوطني، إلى المركز الحدودي للفويض قادما من المراكز الحدودية لولاية تبسة، وقدم تعليمات لعناصر الحدود تفيد بالتزام الحيطة والحذر والتأهب للرد على أي طارئ، وهي تعليمات تتكامل مع أخرى قدمها وزير الداخلية والجماعات المحلية قبل نحو شهر من زيارته لولاية تبسة إلى عناصر الجمارك ببذل مزيد من الجهد لمحاربة التهريب، انطلاقا من المنحى التصاعدي لظاهرة التهريب التي عرفت تفاقما خلال سنة 2015 بتسجيل 2299 قضية مقابل 1532 قضية سنة 2014 أي بزيادة نسبتها  50,6بالمائة، بينها 853 قضية تتعلق بتهريب المحروقات بمعدل 600 ألف لتر، فيما تم تسجيل 69 قضية خاصة بتهريب المواد الغذائية المدعمة و11 قضية تخص تهريب الأسلحة بعد استيرادها من الخارج. ويقول بعض سكان البلديات الحدودية إن تهريب الوقود الجزائري إلى تونس تفاقم مباشرة إثر الأزمة التي نجمت عن أحداث ما بات يعرف بثورة الياسمين، بل وصل الأمر إلى حد تشجيع تهريب هذه المادة من قبل مسؤولين بتونس وغض الطرف عما يحدث، لدرجة أن عددا من أصحاب محطات الخدمات بتونس باتوا يخزنونها ثم يبيعونها بأسعار مضاعفة.تونسيون يشهدون على مأساة سكان الشريط الحدودي الجزائريلم نعثر على أي سيارة أجرة أو حافلة ولا حتى (كلونديستان) في حدود الساعة الثالثة مساء، تقلنا من أمام مركز المراقبة الحدودي الفويض (رأس الكاف) إلى بلدية عين زانة على بعد 18 كيلومترا، على أمل العودة إلى مدينة سوق اهراس، ولولا تدخل أحد عناصر الأمن الذي قام بتوقيف تونسيين قادمين من مدينة غارديماو باتجاه عين زانة لبقينا هناك. في طريقنا إلى عين زانة وعلى متن سيارة من نوع (غولف)، لم يتردد سائقها الذي يقيم بغارديماو في وصف الوضع السائد في المناطق الحدودية التي يجتازها من يوم لآخر بالكارثي، قائلا: “المناطق الحدودية الجزائرية متخلفة ولم تعرف عمليات تنمية على نحو ما تعرفه المناطق الحدودية التونسية”، ثم يضيف: “السكان المقيمون على مستوى الشريط الممتد من مركز الفويض إلى عين زانة محرومون من النقل والصحة ومرافق التعليم، فلأكثر من 3 مرات أجتاز هذا المحور أجد نفسي مرغما على حمل تلاميذ يدرسون في الطور الابتدائي، ينتظرون النقل والمطر يهطل عليهم”. الأمر، حسب هذا التونسي، لا يتوقف عند هذا الحد “في كل مرة أكون متوجها إلى عين زانة أتوقف لأحمل معلمين عالقين في الطريق لم يتمكنوا من الالتحاق بمنازلهم في المساء وأحيانا لم يتمكنوا من الالتحاق بالمدرسة في الصباح، ومرات أجد مسنين عالقين يرغبون في اللحاق بعين زانة لمجرد تلقي حقن من الدواء”.“حماية الحدود لا تتم فقط عن طريق الجيش..”بعض من أبناء ولاية سوق اهراس ممن يودون الدفاع عن منطقتهم ولكنهم يخشون ذكر أسمائهم لاعتبارات مختلفة، يتساءلون عن سبب عدم التفات الدولة من حولها لتسطير برنامج خاص بتنمية المناطق الحدودية على نحو ما فعلته بشأن برنامج تنمية مناطق الهضاب العليا، ويقدمون منظورا آخر لحماية الحدود مؤداه أن حماية الحدود لا تتم فقط عن طريق الجيش وأسلاك الأمن، بل بإشراك المواطن أيضا بعد التكفل به اجتماعيا حتى لا يكون هدفا في أجندات المهربين والإرهابيين. ويقف بعض العارفين بالشأن الأمني إلى صفهم ويقولون إن هذا الطرح تعمل به السلطات التونسية التي لم تتردد في إشراك المواطنين على نحو غير مباشر في حماية الحدود، بدليل أنه كلما تم تسجيل حادث تحمّل السلطات التونسية مواطنيها في تلك المناطق الحدودية مسؤولية تقديم المعلومة بشأن ما حدث.لكن هل تنمية المناطق الحدودية هي من أولويات الحكومة في الوقت الحالي، خاصة إذا علمنا أن الوزير الأول عبد المالك سلال أصدر تعليمة تقضي بتجميد كافة المشاريع المسجلة التي لا تتوفر على أمر بالشروع في الأشغال وشمل التجميد مستشفيين، بينهما مستشفى ببلدية حدادة، ما جعل الناس إلى غاية اليوم يدخلون إلى ساقية سيدي يوسف بتونس لتلقي العلاج بأموالهم الخاصة؟ أم أنه في ظل هذه الأزمة ستلجأ الدولة إلى لعب ورقة أفضلية الجانب الاجتماعي على التنموي في هذه المناطق، ما يعني أن الدولة في هذه الحالة مطالبة بفتح الاستثمارات وتسهيلها أمام الخواص؟ في طريق عودتنا من عين زانة باتجاه مدينة سوق اهراس، كانت بلديات هذه الولاية مثل المراهنة، أولاد إدريس وغيرها تقدم نفسها في حلة من الثلوج التي حافظت على سمكها ببعض الهضاب والمرتفعات، في غمرة ذلك كانت بعض الأصداء المنعكسة من بلدية المشروحة، مقر القاعدة الشرقية ومنتجع الشاعر التونسي المشهور أبو القاسم الشابي، تفيد بأن بعض المداشر المتواجدة بها وبالحنانشة وسيدي فرج لا تتوفر على كهرباء إلى غاية اليوم.واقع التنمية لا يعكس الماضي الثوري للمنطقة..والداخل إلى قلب مدينة سوق اهراس بوسعه أن يقف على بعض المعالم مثل متحف المدينة وشجرة سانت أوغسطين والمسجد العتيق، وفي ضواحيها تشده آثار خميسة ومداورش وتاورة، وكلها تعكس الصفحات المشرقة لمدينة سوق اهراس الواقعة على بعد نحو 650 كم إلى شرق العاصمة، ما يؤهلها لأن تتحول إلى واحدة من الوجهات السياحية المفضلة بالجزائر، بل إن محطة القطار التي كانت تشتغل منذ 1881 والمسرح سنة 1885 ودار القاضي سنة 1938 تعكس قمة الحضور الثقافي والاقتصادي والسياسي للمجتمع المحلي في هذه المدينة، فضلا عن القاعدة الشرقية التي كان مقرها في بلدية المشروحة أثناء الثورة، ما جعل من المنطقة خزانا للرجال في شتى المجالات ولاسيما في مجال الثقافة والأدب والسياسة، فهي المنطقة التي أنجبت سعيد عبيد والطاهر زبيري ومصطفى كاتب والطاهر وطار وغيرهم. لكن بعض أبناء مدينة سوق اهراس ممن تحدثنا إليهم يقولون “إن واقع التنمية اليوم لا يعكس الماضي الثوري للمنطقة..” أي أن المنطقة لم يرد لها جميلها من التضحيات التي قدمتها، خاصة أن الصورة التي يحملها المخيال الجماعي لسكان مدينة سوق اهراس هي “إننا نقيم في مدينة مهمشة ومقصاة من التنمية”، وهو ما لمسناه من مختلف آراء من تحدثنا إليهم، وربما نسي هؤلاء المعطى الجغرافي المتمثل في انحصار منطقتهم بين جبال لا يمر بها أي طريق وطني، ولو أن مناطقها ذات طبيعة جميلة وخلابة. ولا يتردد هؤلاء في ذكر الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد بخير ويقولون عنه إنه الرجل الذي مد الروح في منطقتهم بعد توليه منصب رئيس الجمهورية ومنحنا مشاريع تنموية، في إشارة إلى أن الرئيس الراحل هواري بومدين لم يكن مكترثا للمنطقة على خلفية مواقف بعض رجالها منه في منتصف ستينات القرن الماضي. استثمارات منعدمة ومقاهٍ تعج بالبطالينسوق اهراس.. انحطاط ثقافي واجتماعي واقتصادي يقول بعض المثقفين من أبناء المدينة “إن سوق اهراس تعيش اليوم حالة انحطاط ثقافي واجتماعي واقتصادي قياسا بما كانت عليه خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بدليل أن نسبة البطالة في الولاية وصلت إلى 32 بالمائة وأغلب العائلات مازالت تعيش من معاشات المجاهدين”. والواقع أن الزائر لقلب مدينة سوق اهراس بوسعه أن يقف على ظاهرة المقاهي الكثيرة التي حافظت على كراسيها المكتظة بزبائنها حتى عند الساعة العاشرة صباحا، ما يطرح بالتالي تساؤلا عن سر محافظتها على مكانها التقليدي في المجتمع رغم الرياح العاتية للحداثة والموضة، ما يؤشر بالتالي على اتساع رقعة البطالة في ظل معلومات متداولة هناك تفيد بأن غالبية الشباب المستفيد من إعانات الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب والصندوق الوطني للتأمين على البطالة وصل إلى عنق الزجاجة وفشل في مساعيه نتيجة غياب دينامكية اقتصادية وانسداد آفاق التنمية، لدرجة أن بعضهم حولوا عرباتهم إلى ملاهٍ. وتؤكد معلومات بعض من اشتغلوا في القطاع الاقتصادي أن سوق اهراس كان بها أزيد من 16 مؤسسة خلال ثمانينات القرن الماضي، ولم تبق اليوم إلا مؤسسة واحدة هي المؤسسة الوطنية للدهن منحت لسوق اهراس بعد أن تحفظت ولاية ڤالمة على تسلمها حسبهم، أما وحدة الورق فأغلقت أبوابها ثم اشترتها المؤسسة العسكرية.وإلى غاية اليوم، لم يبق إلا مشروع الفوسفات ببلدية وادي الكباريت بالشراكة مع القطريين ولكنه لم ينطلق بعد. وموازاة مع ذلك، فإن القناعة التي يتقاسمها كثير من المواطنين هي أن المسؤولين في سوق اهراس يتحملون جزءا من مسؤولية توقف التنمية، بينهم المنتخبون المحليون بالنظر لقصر نظرتهم للتنمية وعدم وعيهم بالرهانات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة أن أحد ممثلي جمعية (عودة الحياة) بدائرة سدراتة يقول: “المسؤولون لا يجتهدون في استقطاب الشباب لإشراكه في عملية التنمية، فالأنشطة الخاصة بالشباب على مستوى مراكز الثقافة والشباب منعدمة”، قبل أن يضيف: “الشباب يموت في صمت في المقاهي لأنهم لم يجدوا متنفسا لهم، ما جعلهم يقبلون على المخدرات والمتاجرة بها”.لكن في غمرة كل ذلك، عرفنا أن الظروف الاجتماعية للناس في سوق اهراس بدأت تضغط بثقلها أكثر من أي وقت مضى، ولعل ما يعكس ذلك مؤشر غلاء المعيشة بالنظر إلى أن كيسا من السميد من حجم 25 كلغ يقدر سعره بـ1650 دينار، ناهيك عن أسعار منظومة باقي المواد الاستهلاكية الأخرى. هذا الضغط قد يكون وراء ارتفاع قضايا الإجرام والطلاق التي راحت تأخذ منحى تصاعديا في المنطقة، إذ يشير الأستاذ المحامي عبد الكريم بوعيطة إلى أن “عدد قضايا الإجرام في سوق اهراس بلغ 30 ألف قضية في السنة، بينما بلغت نسبة الطلاق سنويا 60 بالمائة، تتعلق بشباب لم تمر 8 أشهر على زواجه وتتراوح أعمارهم بين الـ25 إلى 35 سنة”، ويقر بأنه موازاة مع تفاقم ظاهرة الإجرام والطلاق برزت ظواهر أخرى تتعلق بالقضاء على الغابات من جانب قطع أشجارها وبيع خشبها إلى مؤسسات خاصة للبناء، ولهذه الظاهرة علاقة وطيدة ببروز البناء الفوضوي العشوائي دون حيازة رخصة البناء مع الاعتداء على الملكية الخاصة للدولة، بدليل وجود قضايا في العدالة متعلقة بها، فضلا عن كون ولاية سوق اهراس لا توجد بها أي حالة لتسوية البناءات غير المكتملة رغم وجود مذكرة صادرة عن رئيس الحكومة بتاريخ 29 ديسمبر من سنة 2011، تحث كل السلطات على الامتثال لوضعيات تسوية البناءات الفوضوية وغير المكتملة، ومع ذلك منذ 8 سنوات لم يتم تسوية أي حالة، يضيف المتحدث.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات