38serv

+ -

يتبادر إلى ذهن المواطن الجزائري في كل مرة تتداول فيه كلمة ”التاريخ”، مرحلة الثورة وحرب التحرير دون غيرها من الحقب التاريخية. وكأن التاريخ أصبح يعني فقط الحرب التي خاضها الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي، ولا يعني الحقبة الوسيطة أو المرحلة العثمانية أو تاريخ ما قبل الإسلام. وارتبطت هذه الانتقائية برغبة السلطة الحاكمة عقب الاستقلال الوطني في 1962، في تحويل تاريخ الثورة إلى فضاء للشرعية. وداخل هذه الانتقائية شهدنا انتقائية جزئية أخرى، تمثلت في أولوية التاريخ العسكري وتمجيد المعارك والبطولات الحربية على التاريخ السياسي والدبلوماسي ودور النخب المثقفة. وتستمر هذه الانتقائية إلى اليوم، وكان لها انعكاس بارز على سلوك الإنسان الجزائري وعلاقته بالتاريخ الذي انحصر في الثورة، فتكون لديه تركيز مبالغ فيه على هذه المرحلة، فنتج عن ذلك ارتباط مستمر مع ”الاستعمار”، الأمر الذي حال دون بروز رغبة في التحرر من هذه النظرة التي تجعل هذا الاستعمار حاضرا في حياتنا اليومية بشكل يشبه الهوس. لقد تكونت لدينا ذاكرة يحتل فيها المستعمر الفرنسي مكانة مهمة، وعليه قال باحثون في التاريخ لـ ”الخبر” إن الاشتغال على جميع الحقب التاريخية، هو الحل الوحيد القادر على ”تكوين جذور متينة”.الدكتور رابح لونيسي لـ ”الخبر” ”لدينا رغبة لاشعورية لتناسي ما يُعتقد أنه جوانب مظلمة في تاريخنا”  ”المؤسف هو بروز نوع من حرب ذاكرة لأسباب إيديولوجية وجهوية”يرى الدكتور رابح لونيسي أن السلطة بعد الاستقلال ركزت في تلقين التاريخ على مراحل دون أخرى، بدل تلقين تاريخ الأمة الجزائرية كلها بكل مكوناتها ومراحلها من القديم إلى اليوم، وركزت على تاريخ ”حرب التحرير” دون غيره، موضحا أنه تم بانتقائية بإقصاء المعارضة، وصوّر كأنه تاريخ حزب جبهة التحرير الوطني، وكأن الأخير استمرارية لجبهة التحرير الوطني التاريخية ببطولاتها وتضحيات رجالاتها، واستهدف من خلال ذلك إعطاء قداسة وشرعية تاريخية لدولة الحزب، ومن خلاله للسلطة القائمة. ما هي التفسيرات التي يمكن تقديمها لانتشار ظاهرة التركيز على تاريخ حرب التحرير، لما نتناول مسألة التاريخ، وإهمال الحقب الأخرى منذ العصور القديمة؟ لا يمكن عزل بعض الخطابات التاريخية عن الصراعات السياسية والإيديولوجية السائدة في المجتمع، فالاهتمام بقضايا ومراحل تاريخية معينة دون أخرى هو انعكاس لتلك الصراعات ولحاجات المجتمع أو السلطة، فبإمكان هذه الخطابات ذاتها أن تعد مصدرا لكتابة تاريخ الفترة التي ظهرت فيها، إذا عرفنا الربط بين الظروف، وإنتاج بعض هذه الخطابات غير الموضوعية، لأنها انعكاس لصراعات تلك الفترة، بتوظيف معلومات منتقاة من الماضي لأغراض سياسوية، فبعض الخطابات التاريخية هي مجرد اختراع أسطوري بعيد عن الحقيقة، وتروج بواسطة الأدوات الإيديولوجية للسلطة السائدة في أي مجتمع، ولعل هذه الخطابات البعيدة جدا عن الموضوعية هي أحد أسباب عزوف البعض عن الاهتمام بالتاريخ، إضافة إلى عدم وعي بعض العارفين بأهمية التاريخ في بناء الأمم والدول، ورسم الاستراتيجيات، وفهم حركية المجتمعات ونفسياتها الجمعية كلما توغلنا في غور تاريخها، حسب يونغ.هل معنى هذا أننا قمنا بتلقين التاريخ وفق منهجية خاطئة، واستنادا إلى خيارات سياسية؟ أعتقد أن تلقين التاريخ للمواطن يتم في المدرسة في كل الدول، لكنه يلقن حسب الإجابة على سؤال جوهري: هل الهدف من تلقينه هو بناء الأمة بكل مكوناتها ومناطقها دون أي إقصاء، أم مجرد توظيف للتاريخ خدمة للسلطة السائدة؟ ففي الدول ذات الأنظمة الشمولية يلقن التاريخ بانتقائية وتزوير، لأن الدولة هي دولة مجموعة أو حزب أو إيديولوجية، أما في الدول الديمقراطية فالدولة هي دولة كل الأمة، فلهذا يتم تلقين تاريخ الأمة كلها دون أي إقصاء.وقد تم التركيز في جزائر ما قبل 1988 في تلقين التاريخ على مراحل دون أخرى، بدل تلقين تاريخ الأمة الجزائرية كلها بكل مكوناتها ومراحلها من القديم إلى اليوم، ورغم أننا نجد بعد 1988 نوعا من التصحيح في المناهج وتدارك هذا الظلم في حق بعض مراحل ومكونات ورموز الأمة، فإنه لازال يحمل نقائص عدة، والمفروض تلقين تاريخ الأمة بكل حلقاته في كل الأطوار التعليمية، ويكرر في كل طور تعليمي بالتوسع فيه حسب قدرة استيعاب التلميذ، لكن ما هو حاصل اليوم عكس ذلك، فمثلا ندرس ماسينيسا ويوغرطة وعبد المؤمن بن علي أو الدولة النوميدية والرستمية والحمادية في الطور الابتدائي أو بدايات المتوسط، ثم لا نعود إليها بتاتا، فهل سيترسخ ذلك في ذهن الطفل؟ ولهذا يقول الكثير إننا لم نسمع بهذه الدول والرموز، لأنهم تلقوها في فترة تصعب عليهم استيعابها، لكن لو نعيدها في كل طور تعليمي متقدم، بتوسع أكبر وحسب قدرة التلميذ على الاستيعاب، فستترسخ في ذهنه كل المعالم التاريخية للأمة. هذا هو الخلل الموجود في تلقين تاريخ الأمة في المدرسة الجزائرية.وكيف تنعكس هذه النظرة الشاملة غير الانتقائية على حياة المواطن؟ هذا الاهتمام المبكر بالتاريخ بكل مراحله، يجعل المواطن غير ملم بأهم معالم تاريخ أمته ومراحلها، وأبرز أحداثها التي يجب ترسيخها في ذهنه، فلكل أمة تاريخها المختصر الذي يجب أن يعرفه كل منتم إليها، لأنه تعبير عن هويتها وعزتها والرابط بين أفرادها، وتجعل المواطن لا يحتقر ذاته، ويتجذر في هويته ولا يصبح قشة دون معالم ثقافية وجذور تاريخية عميقة، فتهزه وتقتلعه كل ريح خارجية تهب عليه، فتاريخ الأمة وثقافتها هي الكفيلة بغرس الروح الوطنية في الإنسان الجزائري.بالإمكان تبسيط تاريخ الجزائر بالتركيز على معالمها ورموزها كما فعل مثلا توفيق المدني في كتابه ”الجزائر” في الثلاثينيات مثلا، وكما فعل ”لافيس” في فرنسا، حيث عُد كتابه بمثابة إنجيل الوطنية الفرنسية آنذاك، وبإمكان اتخاذ إلياذة الجزائر لمفدي زكريا بمثابة كتاب هذه الأمة، لأنه تطرق إلى كل تاريخها من الجذور إلى 1962، بكل أمجادها السياسية والحضارية والثقافية وحتى جغرافيتها، لكن بأسلوب شعري مؤثر، ولو درسنا الإلياذة كلها لأبنائنا وشرحنا مدلولاتها، فستكون كافية لغرس روح الاعتزاز الوطني في أبنائنا.وهل تغيرت أمور بخصوص نظرة السلطة لهذه المسألة بعد الخروج من مرحلة الأحادية؟ إن الاهتمام بمراحل تاريخ الجزائر وتلقينه للأجيال مر بفترتين:- قبل 1988 أي في عهد الأحادية: وفيها تم التركيز على تاريخ الثورة بانتقائية بإقصاء المعارضة، وصور كأنه تاريخ حزب جبهة التحرير الوطني، وكأن الأخير استمرارية لجبهة التحرير الوطني التاريخية ببطولاتها وتضحيات رجالاتها، واستهدف من خلال ذلك إعطاء قداسة وشرعية تاريخية لدولة الحزب، ومن خلاله للسلطة القائمة، وحتى عند تناول تاريخ الثورة ضُخم الجانب العسكري على حساب السياسي والدبلوماسي لأهداف عدة، منها إقصاء الحكومة المؤقتة من التاريخ، فكان أحد أسباب ترسيخ فكرة العنف كأسلوب لأي عملية تغيير في ذهن الكثير، وحتى عند تدريس المراحل التاريخية الأخرى كالقديم والإسلامي مثلا، يتم التركيز على الجانب العسكري وتغييب الجوانب الحضارية والثقافية، ما خلق عقدة نقص لدى الكثير منا، وكأن الأمة الجزائرية الممتدة على آلاف السنين لم تقدم أي إنجازات حضارية، وإن ذكرت تنسب للغزاة، كما همش تاريخ التيار الاستقلالي لكي لا تذكر رموز كبرى معارضة للنظام، وكأن الثورة جاءت من العدم في 1954 وليس لها جذور، حسب تعبير بن خدة. وقد تغير الأمر تدريجيا بعد 1988 ببروز الخطاب التاريخي للمعارضة، بفعل توفر الحريات وبداية محاولات محتشمة لتلقين تاريخ الأمة كلها في المدرسة، لكن انصبت الاهتمامات الشعبية على تاريخ الثورة في البداية، وأحد أسباب ذلك ولع الشعوب بالتاريخ القريب، مثل شغف الكثيرين اليوم بمعرفة تاريخ جزائر ما بعد 1962 وصراعاتها، ومنها أحداث التسعينيات، لكن أقبل هؤلاء أيضا بشغف على معرفة ما حدث فعلا أثناء الثورة، بعد بروز خطاب جديد أعاد النظر في الكثير مما كان يقال من قبل، وحُطمت الطابوهات، وبرزت قضايا اعتبرت أسرارا للثورة، تعد عامل جذب للاهتمام بتاريخ الثورة، عكس لغة الخشب التي سادت لعقود.لكن الملاحظ أن هذه المرحلة، أي مرحلة ما بعد أكتوبر 1988، عرفت عدة صراعات بين الفاعلين، وأدت إلى بروز نوع من الحذر، لماذا راجت هذه الظاهرة؟ ما يؤسف له هو بروز نوع من حرب ذاكرة بين الجزائريين في السنوات الأخيرة، لأسباب إيديولوجية وجهوية، وتصفية حسابات بين الفاعلين التاريخيين، ما أدى إلى انتقاء الرموز مثلا حسب الإيديولوجية أو الجهة وغيرها، وهو ما يعبر عن تفشٍّ خطير للجهوية والصراعات بشكل مهدد لوحدة الأمة مستقبلا، ويخشى ابتعاد الجزائري حتى عن الاهتمام بتاريخ الثورة، بسبب البلبلة التي وقعت له، وتشويها من المتاجرين بها، فتضاف مرحلة الثورة إلى المراحل التاريخية الأخرى التي تناساها بعض الجزائريين، كأنهم أرادوا التخلص منها بعد التشويه والطمس الذي ألحق بها على يد إيديولوجيي مختلف الحقب الاستعمارية التي تعرضت لها أمتنا، وصوروا هذه المراحل التاريخية لشعبنا بأنها فترات مظلمة مثل غوتييه، وبأنها مجرد فترات حروب وانكسارات وغزوات وتتالي حملات الاحتلال، ومنها تغييب إنجازات أجداده الحضارية وإبداعاته ونسبها لمختلف الغزاة، ولعل هذا ما يفسر رغبة لاشعورية لتناسي ما يعتقد أنه جوانب مظلمة في تاريخه بفعل ذلك التشويه والطمس التاريخي.وهل كان للجانب الإيديولوجي تأثيره في هذه المسألة؟ نعم، لقد كان للتيارات الإيديولوجية السائدة في المجتمع تأثير على مختلف الاهتمامات، فنجد مثلا تيارا يهتم بجمعية العلماء وتاريخ الإسلام ساعيا للبحث عن شرعية له في هذا التاريخ، كما نجد نفس الأمر عند حركات اليسار التي اهتمت بتاريخ الحركات الاجتماعية، ونسجل ملاحظة أخرى تتمثل في استيلاء واحتكار تيارات إيديولوجية مقومات وأبعادا مكونة للأمة، فنجدها تركز على البعد التاريخي لذلك المقوم الذي استولى عليه مُقصيا ومهمشا بل مشوها الأبعاد والمقومات الأخرى التي لا تخدم إيديولوجيتها.     الأستاذ موسى معيرش ”تاريخنا تعرض للسرقة من طرف فرنسا” ذكر الأستاذ موسى معيرش، الأستاذ بجامعة خنشلة كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية والأستاذ المشارك في كلية أصول الدين بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، أن تاريخ الحقبة الاستعمارية هو آخر مرحلة من مراحل تاريخ الجزائر من حيث ”الخضوع للاستعمار”، ووصفها بالمرحلة التي لا تزال حديثة وقريبة جدا ولها حضور قوي في الذاكرة، وهي جرح لم يندمل بعدُ بالنسبة للفاعلين في هذه الأحداث الأليمة، وبالتالي فإن العودة إليها والتركيز عليها ما يزال محل اهتمام كبير من قبل الباحثين والرأي العام على حد سواء.وقال الأستاذ معيرش ”إن آثار الحقبة الاستعمارية لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، على غرار اليربوع الأزرق التي ما زال تأثيرها على سكان الجنوب. من جهة أخرى فإن السياسة المتبعة منذ الاستقلال جعلت الاهتمام ينصب على تاريخ حرب التحرير دون غيره من الحقب التاريخية. كما أن مسألة عدم اعتراف فرنسا بجرائمها تترك الجزائريين حساسين تجاه هذه الحقبة، إلى درجة نسيان وإهمال باقي الحقب التاريخية”. ويضيف الأستاذ أن تاريخ الجزائر تعرض لما يشبه السرقة من قبل فرنسا ولا يزال محبوسا لديها، موضحا أن اليمين المتطرف الصاعد بقوة في فرنسا لم يتقبل أبدا فكرة الاستقلال، لتبقى الحساسية قائمة بين الشعبين. وبحسب الأستاذ معيرش، فإن كل هذه الأمور تجعل الجزائر غير متصالحة مع فرنسا، وجيل المجاهدين لم يتمكن من النسيان، ولا يركز سوى على المرحلة ما بين 1954 و1962.الدكتور عبد الله بوخلخال عميد جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية”نحن بحاجة لمن يروج لتاريخنا القديم” تأسف الدكتور عبد الله بوخلخال، عميد جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، على استمرار حصر تاريخ الجزائر في الحقبة الاستعمارية رغم ثرائه وغناه، واعتبر أن المشكل لا يكمن في الباحثين والمؤرخين أو المادة التاريخية الموجودة بغزارة والمتوفرة بحجم كبير، بل في من يسوقها، خاصة أن جامعة قسنطينة تضم كلية للتاريخ وقسما لتاريخ الجزائر، مضيفا أن المؤرخين والمنظرين الأوربيين قد سيطروا على علم تاريخ الشعوب والحضارات، واستخرجوا منها مبادئ لم تأخذ في الحسبان، إلا جزءا من تجارب المجتمعات القديمة، والتي ظلت لفترات طويلة تحت السيطرة الاستعمارية على غرار الجزائر.    الأستاذة فاطمة الزهراء قشي ”دور النشر هي التي تختار المواضيع التاريخية” ذكرت فاطمة الزهراء قشي، مديرة مخبر التاريخ والتراث والمجتمع ومسؤولة النشر بجامعة قسنطينة 2، أن حصر التاريخ الجزائري في الحقبة الاستعمارية راجع لكون وسائل الإعلام ودور النشر هي التي تختار المواضيع أو التركيز على هذه المناسبة أو تلك، دون غيرها. وأكدت الأستاذة قشي أن هذا الأمر لا ينفي وجود أساتذة ومؤرخين للتاريخ الجزائري قد تعمقوا في دراسة مختلف الحقب الزمنية التي شهدتها الجزائر منذ فجر التاريخ، غير أن هؤلاء لم تسلط عليهم الأضواء، على غرار الباحث المختص في فترة ما قبل التاريخ الأستاذ عبد العزيز بن الأحرش صاحب ”بشريات ما قبل الإنسان”. وتضيف المتحدثة أنه يوجد مختصون في مختلف الحقب التاريخية في الجزائر، بما في ذلك الفترة الوسيطة، على غرار الأستاذ عبد الناصر جبار، والأستاذة بوبة مجاني صاحبة ”أثر العرب اليمنية في تاريخ بلاد المغرب في القرون الثلاثة الأولى للهجرة”، يضاف إلى هؤلاء مختصون في التاريخ القديم والآثار الذي نبغ فيه عدة أساتذة، على غرار الأساتذة سعاد سلمياني وسفيان بوذراع ومحمد العربي عقون، لكن أعمالهم تظل مجهولة.     

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات