38serv

+ -

تعود اليوم الذكرى الـ78 لمجازر الثامن ماي 1945، اليوم التاريخي والمفصلي في نضال الشعب الجزائري، والمحطة الحاسمة التي أيقظت العزيمة الوطنية وجنّدت الشعب وقادته حول ضرورة النضال المسلح ضد المستعمر الفرنسي، تعود هذه الذكرى في فترة عرفت العلاقات الجزائرية الفرنسية في مسألة الذاكرة تطورا ملحوظا خاصة مع تعيين اللجنتين الجزائرية والفرنسية لدراسة وبحث ملف الذاكرة التي تجمع البلدين، حاولت "الخبر" التقرب من باحثين ومختصين في تاريخ المقاومة والثورة الجزائرية والحديث عن هذه المناسبة الأليمة التي وثقت بالأدلة لجرائم فرنسا الاستعمارية، والحديث أيضا عن مهمة لجنة الذاكرة في فتح هذا الملف مع الطرف الفرنسي وملفات أخرى لا تقل أهمية في تاريخ الثورة الجزائرية...

قال الدكتور عمر بوضربة، أستاذ جامعي وباحث في تاريخ الثورة والأرشيف والذاكرة، إن الذكرى تأتي في ظرف خاص يتمثل بشكل دقيق في ظل الحديث عن قرب اللقاء بين اللجنتين الجزائرية والفرنسية للذاكرة وبالتالي ينبغي الربط بين المناسبتين أو الموضوعين.

وأكد بوضربة في تصريح لـ"الخبر"، أن "ما يصطلح على تسميته من طرفنا كجزائريين بمجازر الثامن ماي وما يسميها نظراؤنا الفرنسيون بأحداث الثامن ماي 1945، تشكل حدثا معلميا بارزا في تاريخ الجزائر المعاصر"، فقد جاءت –حسبه- في أعقاب حرب عالمية تأثرت بها فرنسا الاستدمارية مثلما تأثرت بها المستعمرات وخاصة الجزائر، "فقد حاولت فرنسا من خلالها التأشير على عودتها بقوة إلى مسرح الأحداث العالمية كقوة هامة بعدما ذاقت خيبة الهزيمة والإذلال على يد قوات هتلر النازية، وحاولت ضرب نمو الحركة الوطنية الجزائرية التي نمت وتطورت مطالبها خلال الحرب العالمية الثانية من خلال توجهها نحو الوحدة (حركة أحباب البيان والحرية) وتصعيد مطالبها الاستقلالية من خلال المطالبة بالاستقلال الذاتي (مطالب بيان الشعب الجزائري فيفري 1943 ومطالب حركة أحباب البيان والحرية). ومن جهة أخرى حاولت إدارة الاحتلال الانتقام من الشعب الجزائري الذي التف حول المطالب الاستقلالية للحركة الجديدة".

الأمر الثاني -يقول الدكتور- يتمثل في أنه ينبغي على اللجنة الجزائرية للذاكرة أن تدرج ملف مجازر ماي 1945 ضمن محاور مطالبها في مفاوضاتها أو حوارها مع نظيرتها الفرنسية في اللقاءات المرتقبة، وذلك من خلال التأكيد على أن ما حدث في ماي 1945 يعتبر جريمة دولة بكل المقاييس وليست عملا معزولا لأشخاص وقادة، وأيضا المطالبة بالأرشيف الفرنسي السري المتعلق بالمجازر والأحداث من مختلف جوانبها؛ "والذي لم يتح بعد للباحثين الجزائريين، ثم العمل للحصول على قوائم الشهداء والمفقودين وكذا قوائم المسؤولين عن المجازر والتجاوزات وكل أعمال القمع التي دامت أسابيع من شهر ماي 1945، ثم المطالبة بتعويض الضحايا معنويا (من خلال الاعتذار الرسمي للدولة الجزائرية وللضحايا المدنيين الجزائريين) وماديا من خلال تعويض أبنائهم وأحفادهم".

 

المسؤولية ثقيلة نحو واجب الذاكرة

 

قال الدكتور حميد قريتلي، جامعة يحي فارس المدية، إن الشعب الجزائري يتذكر كل سنة تضحيات الذين سقطوا شهداء من أجل الاستقلال في مجازر 08 ماي 1945، وأوضح في حديثه لـ"الخبر" بأن الصفحات السوداء المرتبطة بهذه المجازر تدفعنا إلى الدفاع عن الحقائق، حتى لا نترك المجال لخصومنا فيما وراء البحر لممارسة عملية الاستفزاز وتزييف الحقائق، "ويمكن أن نذكر ما قاله ديدوش مراد: إذا استشهدنا فحافظوا على ذاكرتنا"، من هنا يمكن يستنتج الدكتور قريتلي أن المسؤولية ثقيلة نحو واجب الذاكرة، فهي محطة تلزمنا –حسبه- بضرورة اختيار المصطلحات في وصف ما جرى من وقائع، لأن فرنسا في منظومتها الاستعمارية سعت بكل ما تملك من إمكانيات إلى تشويه الحقائق، فوصفت المجازر بالأحداث، واختصرتها زمانيا في يوم 08 ماي 1945، في حين أن الحقيقة شملت 15 يوما من التجاوزات اللاإنسانية، كما حاولت أن تحصر مجالها الجغرافي في مناطق محددة: قالمة، خراطة، سطيف، في حين أن المجازر شملت الكثير من المناطق، واستعملت خلالها فرنسا كل الوسائل العسكرية في عملية قمع الجزائريين يضيف المتحدث، الذي أكد أن هذه المجازر ارتبطت بظروف الحرب العالمية الثانية، بعد دفع الجزائريين إلى هذه الحرب التي لا يملكون فيها شيئا، "وكان سعي الجزائريين إلى تلبية هذا المسعى الاستعماري مقابل الحصول على الاستقلال، غير أن الوقائع انعكست سلبا على الجزائريين من خلال حل الأحزاب السياسية واعتقال الزعماء السياسيين والتنكيل بالكثير من المناضلين، ورغم ذلك وقع تقارب سياسي بين مختلف اتجاهات الحركة الوطنية وتأسيس تجمع أحباب البيان والحرية سنة 1943، إضافة إلى ظروف أخرى ارتبطت بالأوضاع التي أوجدها الواقع الاستعماري من تراجع للواقع الاقتصادي والاجتماعي وهو ما أظهر ردود فعل على المستوى الشعبي في الجزائر".

صرّح قريتلي بأن الكثير من الظروف والوقائع ساهمت في ازدياد الوعي السياسي والوعي بشكل عام مع إعلان الميثاق الأطلسي سنة 1941م، والذي شد انتباه الوطنيين، والذي كان يدعو إلى استقلال الدول التي كانت واقعة تحت الاستعمار، إضافة إلى تصريح "ديغول" في برازافيل سنة 1944م والذي أكد ما وقع في الميثاق الأطلسي سنة 1941م "يجب أن نترك الفرصة لهذه الشعوب الواقعة تحت الاستعمار أن تحكم نفسها بنفسها"، وهناك ظروف أخرى -يقول قريتلي- ارتبطت بانتشار الصحافة بالرغم من التضييق، والتي كانت توفد إلى الجزائر خاصة الصحافة التونسية والمصرية، وكانت تلقى إقبالا كبيرا من طرف الجزائريين.

خلص قريتلي إلى القول بأن مجازر 08 ماي 1945م لا يمكن أن تسقط حقيقة وقائعها بقوة الحقيقة التاريخية، هذه الأخيرة القادرة على المقاومة والصمود أمام ترسانة التزييف، ووجود التواصل بين الأجيال في الجزائر هو مكسب آخر يسقط كل المزاعم والأهداف التي تستهدف الذاكرة الوطنية، وعلى الفعاليات الثقافية والاجتماعية بذل المزيد من الجهود ومواصلة مشروع الذاكرة في نشر الوعي بالتاريخ الوطني لصد كل حملات ما وراء البحر.

 

يجب وضع سجل ومعلمة تاريخية لكل الجرائم الفرنسية

 

قال الدكتور عبد القادر عزام عوادي، جامعة الوادي، إنه في كل مناسبة تخص ذكرى من ذكرياتنا الأليمة مع الاحتلال الفرنسي للجزائر، نعيد الحديث عن ملفات دائما ما يتكرر الحديث حولها، ولكنها لليوم ما زالت لم تجد الآليات الحقيقية والوسائل الفعلية لجعل ذلك التنظير أمرا واقعا ومحسوما للطرفين الجزائري والفرنسي. وذكر في تصريح لـ"الخبر" أنه ومنذ أن جاء الرئيس الحالي للجزائر عبد المجيد تبون، حاول رفقة المؤسسات الكبرى للدولة الجزائرية تفعيل ما عجز عنه في الماضي من خلال ترسيم يوم وطني للذاكرة المصادف ليوم 8 ماي من كل سنة، وهي تذكير بمناسبة أليمة لكل الأمة الجزائرية نظرا للمجازر التي وقعت في تلك الأيام من شهر ماي سنة 1945، وحصدت فيها أرواح الجزائريين في مختلف المدن والمداشر والأرياف الجزائرية، كما تم –حسبه- فتح قناة تلفزيونية خاصة بالذاكرة والتاريخ، وهي بادرة جد مميزة نظرا لما يلعبه الإعلام في تنمية الوعي لدى الأمم والشعوب، ولما يمتلكه من قوة في صنع الرأي العام المحلي والدولي، "كما قام الرئيس رفقة مؤسسات الدولة بإعادة رفات بعض من شهداء المقاومة الشعبية وهي بادرة جد هامة في مسار الاعتراف والاعتذار من الطرف الفرنسي". كما تحدث عن بعض القرارات الهامة في هذا المضمار، وهي تعيين مستشار للذاكرة ممثل في شخص الأستاذ عبد المجيد شيخي الذي تولى منصب مسؤول الأرشيف الوطني الجزائري، "وأعتقد أنه يملك الكثير من الرصيد المعرفي الأرشيفي الذي يخص تاريخ الجزائر المعاصر بشكل خاص، ثم تم تعيين لجنة مشتركة مع الطرف الفرنسي خاصة بملف الذاكرة، وهي التي ضمت مؤرخين جزائريين لهم حضور هام في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر".

كما يعتقد الدكتور عوادي أن هذه اللجنة التي عقدت مؤخرا أول اجتماع لها مع نظيرتها اللجنة الفرنسية من أجل التباحث حول أرضية للعمل المشترك، ستواجه صعوبات مع الطرف الفرنسي الذي في كثير من الأحيان يتلون على حسب الأحداث السياسية هناك في فرنسا، خاصة من طرف اللوبي اليميني المتطرف الذي يرفض رفضا تاما التعامل مع الجزائر بالندية الحالية، وما يزال يعتقد ويراها قطعة فرنسية تابعة لباريس.

فيما يرى الدكتور أن اللجنة المكلفة بالذاكرة تحتاج لوقت من أجل وضع معلمة تاريخية خاصة بمجازر الفرنسيين في الجزائر في مختلف المجالات ليس فقط في عمليات القتل والتعذيب، وإنما في سياسات فرنسا في تدمير كل مقومات الحياة في هذه البلاد، سواء في الجانب البشري أو الطبيعي أو الاقتصادي وحتى الديني والثقافي "وهذا العمل يحتاج لتضافر الجهود من مختلف مؤسسات الدولة الجزائرية من أجل وضع سجل ومعلمة تاريخية كبرى وتقديمها للطرف الفرنسي مع كامل الأدلة والوثائق والشهادات التي تؤيد كل إجرام قام به مجرمو الإدارة السياسية والعسكرية في الجزائر طوال فترة تواجدهم".

 

8 ماي 1945.... الذاكرة الجريحة

 

قال البروفيسور سفيان لوصيف، جامعة سطيف 2، من جهته، إن الذاكرة الوطنية جزء لا يتجزأ من تاريخ البلاد، وصرّح في حديثه لـ"الخبر" بأنها تراث إنساني هوياتي ممتد في التاريخ الوطني، وفي إطار جعل يوم 08 ماي يوما وطنيا للذاكرة الوطنية "نفهم اليوم ما مارسه الجيش الفرنسي من الإبادات الجماعية خلال يوم 08 ماي 1945 في الجزائر، حيث كانت مليشيات الكولون المتعصبة تقتل، وقام الجنود السنغاليون بقمع وحشي ضد السكان"، وأضاف "لم يكن هؤلاء الجنود وهم تحت تأثير الفرنسيين يحترمون أحد، لا نساء ولا رجال ولا كبار السن، كانوا يزرعون الرعب ويضربون الناس ويخربون الممتلكات، هذا القمع الذي راحوا يتعاطونه اجتاح المدن والمسالك الريفية، ليسقطوا أخيرا في العبثية... وقرر العسكر الفرنسي إطلاق العنان للتقتيل، وملاحقة كل من يتحرك من الجزائريين، إنه الاستئصال الجماعي، دواوير بأكملها تم حرقها وقتّل أهلها".

أوضح البروفيسور لوصيف بأن الجريمة وقعت وبشكل منظم ومتواصل لعدة أسابيع بعد يوم 08 ماي 1945، وهذا يعني أن فرنسا قد بيّتت النية في اقتراف هذه المجازر، وأن المستوطنين الأوروبيين أذكوا نارها، فكانت الحصيلة ثقيلة. واعتبر مجازر 08 ماي 1945 بمثابة يوم الفصل مع الاستعمار الفرنسي أو بمثابة الهزة الموقظة للأفكار الوطنية، "اعتبرها البعض كنواة حقيقية لتعبئة ثورية عرفت انفجارها الموقوت في نوفمبر 1954، فكانت حركة الانتصار للحريات الديمقراطية هي خير إطار للشباب المتحمس الذي كان ينظر إليهم في وقت من الأوقات من طرف المناضلين التقليديين، كمتطرفين ومجازفين ومتسرعين في الدعوة إلى التمرد على فرنسا وحمل السلاح في وجهها".

وأكد لوصيف أنه هكذا تمت المأساة الدموية والتي لعب فيها الجيش الفرنسي والكولون الدور الأساسي انتقاما من الشخصيات الجزائرية البارزة انطلاقا من حقدهم الأعمى، وكانت –حسبه- مجازر 08 ماي 1945 بداية نهاية الوجود الاستعماري في الجزائر، حيث دعمت مبادئ الثوريين وزعزعت نفوس المترددين والجامدين وقوّمت مواقف المتخاذلين، وبالتالي حققت تطلعات المتحمسين من الشباب الجزائري الثوري إلى إشعال نار الثورة وبدأ التخطيط الفعلي لها مع ميلاد المنظمة السرية عام 1947.

ويعتقد البروفيسور أنه ورغم مرور 78 سنة عن مجازر 08 ماي 1945، لا يزال ملف الضحايا مطروحا للنقاش التاريخي والقانوني وحتى السياسي، "فمن جهة نكران المستعمر الفرنسي لجرائمه في حق الشعب الجزائري، ومن جهة أخرى ظل ملف الشهداء منسيا طيلة هذه المدة لا يكون ذكرهم إلا في مناسبات وطنية، إشكالية تاريخية معقدة في تاريخ الجزائر المعاصر".

كما يرى لوصيف أن المسؤولية كبيرة على عاتق السياسيين في تشريع قانون يستدرك ما فات، وكذلك مسؤولية الباحثين الجزائريين، "فالمتفحص لقانون الشهيد يجد فيه صفة الشهيد هو الذي استشهد بين فترة 1954- 1962 فقط، ورغم الملف الذي قدمته جمعية الثامن ماي، والعرائض التي كتبها أبناء الضحايا، لم يتم الاستجابة لمطالبهم بعد، ينبغي علينا أن لا نستثني حقبة من حقب تاريخنا الحديث والمعاصر ولا نمحوها جميعا، كما ينبغي علينا أن لا نستأصل طرفا أو نغبنه أو نتجاهله".

وختم البروفيسور قوله بأن مجازر 08 ماي 1945 تمثل في الجزائر جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية بأتم معنى الكلمة ارتكبتها فرنسا الاستعمارية، وليست حوادث كما تستعمل في كتابات المسؤولين الفرنسيين والصحافة الفرنسية، "إنها الهمجية الاستعمارية تجلت في تقتيل جماعي وتنكيل ليس له مثيل وتعذيب حتى الموت لكل فئات الشعب الجزائري بلا شفقة ولا رحمة، وفي كل أرجاء الوطن من سوق أهراس شرقا إلى سعيدة غربا، إننا اليوم ونحن نثير ملف 08 ماي الذي أصبح يوما للذاكرة الوطنية نرى الموضوع متكاملا في جوانبه السياسية والقانونية والتاريخية، وأحد المسائل التي يستلزم معالجتها مع الطرف الفرنسي".