"باريس تريد التخلص من الإرث الاستعماري"

38serv

+ -

بعد مصادقة البرلمان الفرنسي يوم 26 ديسمبر الماضي على القانون الخاص باسترجاع الجماجم البشرية، الذي نشر في الجريدة الرسمية الفرنسية بتاريخ 27 من نفس الشهر، فتحت "الخبر" نقاشا رفقة مؤرخين وباحثين حول جدوى وأهمية هذا القانون، خلفياته وأهدافه، في محاولة لتقديم قراءة تحليلية لما سيحمله هذا القانون على مستوى العلاقات الجزائرية الفرنسية في موضوع الذاكرة التاريخية بين البلدين.

اعتبر البروفيسور مبارك جعفري من جامعة أدرار مصادقة البرلمان الفرنسي بغرفتيه في الأسبوع الأخير من السنة الماضية 2023 على قانون يُسمح من خلاله باستعادة البقايا البشرية من جماجم وهياكل عظمية ورفات إلى بلدانها الأصلية، هذه البقايا التي هي اليوم محفوظة في متاحف فرنسا وتعود في أغلبها لمقاومين وثوار للاستعمار الفرنسي خلال القرن التاسع عشر، اعتبرها خطوة لم تأت بسبب تأنيب للضمير الجمعي الذي يكون قد أصاب الطبقة السياسية الفرنسية وفي مقدمتها الأحزاب اليمينية المتطرفة ولا الكرامة الإنسانية، حسب ما جاء في ديباجة هذا القانون، التي تتطلب، حسبه، من الإنسان مهما كان طبعه ودينه أن يتعامل باحترام وقدسية مع رفات أخيه الإنسان، بقدر ما هي محاولة للتخلص من إرث استعماري وسجل أسود في مجال حقوق الإنسان "وازدواجية المعايير عندما يتعلق الأمر بالرجل غير الأوروبي، وهو ما ظلت دائما تعير به فرنسا في المحافل الدولية خاصة بعد كل حديث لها عن حقوق الإنسان والحريات، والدليل على ذلك أن نفس هذا المجلس كان قد صادق منذ سنوات على قانون 23 فبراير أو قانون تمجيد الاستعمار، والسنة ما قبل الماضية أصدر نفس المجلس قانون (طلب الصفح من الحركى)، وهو قانون يعيد الاعتبار للحركى وممارساتهم ضد أبناء جلدتهم. فكيف لمجلس أن يمجد الفاعل لكن في نفس الوقت يصف الأفعال الصادرة عن نفس الأشخاص بالمسيئة للكرامة الإنسانية؟! كما أن هذا القانون قد تعامل مع هذه الرفات البشرية على أنها ملكيات ثقافية تابعة لمجموعة بشرية؟!".

 

الاحتفاظ ببقايا آدمية إساءة كبرى لتاريخ وماضي فرنسا

 

لكن وبالرغم من ذلك وبغض النظر عن القانون ودوافعه وظروفه ورغم كونه جاء متأخرا، يقول البروفيسور جعفري، إلا أنه "يعتبر في نظري خطوة في الإطار الصحيح جاءت لتضع لبنة في طريق طويل للصلح بين فرنسا وماضيها الاستعماري الذي دوما اتصف بالعنف والإرهاب، كما أن الإجماع الذي حصل عليه القانون أثناء التصويت يعكس أن المجتمع الفرنسي أدرك أخيرا أن الاحتفاظ ببقايا آدمية في المتاحف أو غيرها هو إساءة كبرى لتاريخه وماضيه ووصمة عار في جبين كل فرنسي ودليل إدانة لجرائم حرب ارتكبت ويفترض أنها لا تموت بالتقادم، خاصة من دولة تصف نفسها دوما بأنها دولة القانون وشعارها: الحرية، المساواة، الأخوة".

ويعتقد جعفري أن القانون ما كان ليصدر لولا جهود الكثير من الدول والمؤسسات وفي مقدمتها الدولة الجزائرية بكامل مؤسساتها وأطرها من خلال مطالبتها دوما برفات وجماجم الشهداء من ثوار المقاومة الشعبية، "تلك الجهود التي كللت باسترجاع 24 من جماجم مقاومينا وشهدائنا الأبرار سنة 2020 في الذكرى الثامنة والخمسين للاستقلال"، مؤكدا أن الجزائر مطالبة بمزيد من الضغط ومن مختلف الجبهات على الجانب الفرنسي لجعل ملف الذاكرة إحدى الأولويات الأساسية في المحادثات بين البلدين، "لعل وعسى أن تتلو هذا القانون قوانين أخرى تتيح للمستعمرات وللجزائر على وجه الخصوص استرجاع كنوزها وتراثها الثقافي المنهوب الذي تم الاستيلاء عليه بالقوة أثناء الاستعمار الفرنسي".

 

فرنسا مترددة حول هذا القانون لما يثيره من نقاش حول جرائمها

 

يقول الدكتور رابح لونيسي من جامعة وهران 1 إن مسألة إعادة جماجم ورفات مقاومين جزائريين أثارت منذ أكثر من ثلاث سنوات جدلا حادا في الأوساط الفرنسية حول قانونية ذلك. وأوضح لونيسي أن هذا الجدل يعود إلى مسألة الإجراءات التقنية والقانونية لتنفيذ هذه العملية، خاصة أن البعض يرى أن هذه الرفات والجماجم تدخل في إطار تراث فرنسي بحكم أنها موضوعة في متاحف فرنسية، ومنها بالخصوص متحف الإنسان، لهذا لم تتمكن الجزائر من استعادة إلا 24 من أكثر من عدة آلاف من هذه الجماجم والرفات "ولم يقم ماكرون بذلك إلا كعربون لإعادة توطيد العلاقات الجزائرية- الفرنسية، أو بتعبير آخر كحسن نية في بدايات حكم الرئيس تبون لمعالجة ملف الذاكرة الذي يعرقل العلاقات الجزائرية-الفرنسية". لكن انقلب ماكرون، حسبه، على كل ما كان يردده عن مسألة الذاكرة فيما بعد، عندما حاول توظيف ذلك لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وجيوستراتيجية على حساب الجزائر، وهو ما أدى إلى توتر في العلاقات بين الدولتين بعد الرفض الجزائري القاطع لذلك، موضحا أنه ظهر لغط إعلامي بترويج أكاذيب حول تلك الرفات والجماجم بهدف إنقاذ ماكرون نفسه من الضغط والانتقادات التي طالته من بعض عناصر اليمين المتطرف في فرنسا التي لا تستحي بتلك الجماجم والرفات الموضوعة في المتاحف بأنها دليل بارز على همجية الاستعمار الفرنسي. كما أشار لونيسي إلى أن إثارة مسألة الجماجم والرفات والمطالبة بها ستثير قضية خطيرة جدا، وهي إنتاج فرنسا السكر بطحن وتحويل الكثير من تلك الرفات والجماجم إلى سكر في فرنسا خلال القرن 19، وهي جريمة لا يمكن أن يتصورها أي إنسان عاقل، يقول.

ويرى المتحدث أنه وفي وسط كل هذا الجدل ومطالبة عدة دول إفريقية برفات وجماجم لمقاومين لها، إضافة إلى الجزائر، سيؤدي ذلك حتما إلى إعادة طرح كل هذه المسائل والإجراءات القانونية والتقنية، ما يتطلب سن قانون لذلك، وهو ما جعل النائب الفرنسي مارتينز كارلوس بيلونغو يبادر بمشروع قانون لتجاوز كل تلك العراقيل منذ أكتوبر الماضي، "وهو القانون الذي صودق عليه بالأغلبية مؤخرا. لكن يبدو أن السلطات الفرنسية مترددة حول هذا القانون ليس فقط لأنه سيسمح بإعادة هذه الجماجم والرفات، بل لما يثيره من نقاش حول الجرائم الاستعمارية الفرنسية، ما سيضاعف من غضب الشعوب الإفريقية ومنها الشعب الجزائري على فرنسا، فيضعف نفوذها أكثر". وأضاف "كما لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن السلطات الفرنسية تستخدم دائما هذه المسائل الخاصة بالذاكرة كمحاولة ضغط لتحقيق أهداف أخرى سياسية واقتصادية وجيوستراتيجية لأنها تعلم جيدا أن سلطات الدول الإفريقية ومنها الجزائر تعاني من ضغوطات شعبية في مسائل الذاكرة لا يمكن لها تجاوزها، خاصة أن إفريقيا تعرف اليوم هبة ضد النفوذ الفرنسي القديم في هذه الدول، ما يتطلب من هذه الدول توظيفا لمسألة الذاكرة ليس فقط لاكتساب شعبية وتعزيز الروح واللحمة الوطنية في بلدانها، بل أيضا للضغط على فرنسا".

كما أكد لونيسي أن هذه الظروف الجديدة، سواء أكانت سياسية أو قانونية، كفيلة بإعطاء فرصة للجزائر من أجل استعادة جماجم ورفات أبطالها ليس فقط باعتبارها جزءا من ذاكرتنا الوطنية وتخليدا لأبطالنا المقاومين للغزاة الفرنسيين، بل أيضا لتذكير أجيال الحاضر بالثمن الذي دفعه الشعب الجزائري من أجل استعادة استقلاله وإقامة الدولة الوطنية، ما يتطلب الحفاظ عليها بأي ثمن وسط مؤامرات تحاك من عدة أطراف دولية وإقليمية للقضاء على هذه الدولة التي ولدت بتضحيات ملايين الشهداء. وصرح المتحدث قائلا: "فلنتذكر كلنا ابن خلدون الذي قال إن الدولة يمكن أن تسقط عندما يأتي جيل لا يعرف الثمن الباهظ الذي دفع من أجل إقامتها، وهو ما يجب تفاديه من الآن بالتذكير اليومي لشبابنا بهذا الثمن الباهظ الذي دفعناه لإقامة دولتنا الوطنية"، وختم قائلا: "تعد استعادة جماجم ورفات أبطالنا المقاومين إحدى المحطات المذكرة بذلك والمساهمة في غرس أكبر للروح الوطنية للجزائريين ودفعهم للعمل والتضحية من أجل بناء دولة قوية في كل المجالات تردع كل من تسول له نفسه المساس بها".

 

ربما يدخل هذا القانون ضمن خطوات استكمال تسليم باقي الجماجم

 

قال الدكتور بن يغزر أحمد، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الجيلالي بونعامة خميس مليانة، إن النص القانوني الذي صدر في الجريدة الرسمية الفرنسية والمتعلق بتغيير الوضعية القانونية للجثث أو لأجزاء منها المودعة في المتاحف أو أماكن الحفظ الفرنسية تحت بند الملكية العمومية وإمكانية تسليمها لمن يطلبها من الدول على أن يثبت أحقيته في ذلك يندرج في إطار التعامل مع تداعيات ومخلفات الإرث الاستعماري لفرنسا طيلة القرنين 19 و20.

وذكر بن يغزر في تصريح  لـ"الخبر" أن هذا الإرث يمثل بالنسبة لفرنسا عقدة تلاحقها مثلها مثل كل الدول الاستعمارية الأخرى وتؤثر على علاقاتها ومصالحها الاقتصادية والثقافية والجيوسياسية في مناطق نفوذها السابقة، وقد زاد ثقل هذا الإرث، حسبه، مع زيادة منسوب الوعي بأهمية قضايا التاريخ والذاكرة في كثير من الدول في إفريقيا خاصة في تسوية العلاقة بينها وبين فرنسا، وصرح "على رأس هذه الدول دون شك الجزائر أكثر الدول تضررا من السياسات الاستعمارية الفرنسية طيلة أزيد من قرن وثلاثين سنة، كما أنها من أكثر الدول التي لاتزال قضايا الذاكرة والتاريخ فيها تمثل إحدى العقد المستحكمة التي تحول دون التطبيع السلس للعلاقات بينها وبين فرنسا". وذكّر بن يغزر بأن الجزائر كانت قد استلمت سنة 2020 مجموعة من جماجم مقاومين كانت مودعة في متحف الإنسان في باريس وفي مواقع أخرى، وربما يدخل هذا القانون، حسبه، ضمن خطوات استكمال تسليم باقي الجماجم أو الرفات المحتجزة في المستقبل.

كما يقدم الأستاذ منظورا آخر وهو أنه يمكن النظر إلى هذا القانون أنه يندرج ضمن السياسة الحكومية الفرنسية التي تحاول تجزئة ملف الذاكرة والتعامل معه قطعة قطعة لمواجهة الضغوطات التي تمارسها بعض التيارات واللوبيات التي ترفض أي تنازل مُعتبر في هذا الملف الحساس، خصوصا ما يقود منه إلى الاعتراف بالجريمة الاستعمارية ومن ثمة الاعتذار والتعويض.

 

الإجراء يسمح بطي صفحة مظلمة لتاريخ فرنسا الاستعماري في هذا المجال

 

يرى الدكتور توفيق صالحي أن موضوع جماجم المقاومين الوطنيين في الجزائر وغيرها من البلدان التي خضعت للغزو الاستعماري الفرنسي خلال القرن التاسع عشر أصبح مسألة مثيرة للنقاش في الأوساط السياسية البرلمانية خصوصا وأيضا في الجانب الإعلامي، بعدما ظلت، حسبه، قضية الجماجم من المسائل المجهولة. وقال صالحي في حديثه مع "الخبر" إن موضوع قانون إعادة جماجم المقاومين الأفارقة خصوصا من الجزائر ومدغشقر أثار الكثير من الجدل في البرلمان الفرنسي الذي طرح القضية على المستوى التشريعي لسن قانون لإرجاع هذه المجموعات من البقايا البشرية، كما تمت تسميتها من طرف وزارة الثقافة الفرنسية، إلى بلدانها الأصلية بين التأييد والمعارضة. وأوضح أن هذا المشروع واجه الرفض في الجلسات السابقة للبرلمان الفرنسي، ما أدى إلى تأجيل النظر في هذا القانون الجديد حتى يدخل حيز التطبيق، ينتج عنه التنازل نهائيا عن جميع جماجم المقاومين الجزائريين وغيرهم شرط المصادقة على هذا الموضوع في جلسة البرلمان الفرنسي، "الأمر الذي سيسمح بلا شك بإنهاء إشكالية جماجم المقاومين الوطنيين في المستعمرات الفرنسية سابقا، الذين تعرضوا لأبشع أشكال التنكيل، ما يسمح بطي صفحة مظلمة من تاريخ فرنسا الاستعماري في هذا المجال ويفتح مواضيع أخرى للذاكرة الاستعمارية للنقاش، التي يبقى الكثير منها من المسائل الحساسة التي ترهن العلاقات مع فرنسا، خصوصا مع مخلفات الحقبة الاستعمارية في الجزائر التي تبقى عالقة حتى الآن".