+ -

 كان يمازحني كلما طرقنا موضوع اللغة العربية بالقول: ”إن الخطر الأساسي الذي يهدد هذه اللغة الجميلة يأتي من مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، الذي سمح لأمثالك ليعيثوا فسادا فيها”. وكنت أرد عليه مازحا بالقول: ”إن نصف المعرفة أخطر من الجهل”. ربما يغتاظ بعضكم من مجاراتي لمزاحه لأنهم يعتقدون أن الموضوع لا يتحمّل الهزل، ومجرد الشك في الكفاءة اللغوية لمحمد عابد الجابري، رحمه الله، على سبيل المثال، لأنه أغزر المغاربة نشرا في المركز المذكور، يشبه الاعتداء على شخصه.

صديقي المناكف لم يقل ما قاله للتعبير عن سخطه على الذين يسميهم أمثالي، بل للتأكيد على حبه الكبير للغة العربية التي يعتقد أنها مهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى. ليت هذا الصديق قرأ النزر القليل مما كتبه الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري أو غيره ممن يعتقد بضرورة منعهم من الكتابة صونا للغة العربية. لو فعل ذلك لفتحت معه باب النقاش الجاد. ربما اعتقاده أنه يشكل مرجعية للغة العربية منعه من قراءة كتاب ”عروة الزمن الباهي” للروائي عبد الرحمن منيف، الذي أثنى فيه على جهود الصحافي محمد الباهي في تطوير اللغة العربية وإثرائها. فهذا الصحافي الموريتاني المغربي الجزائري الذي كتب في الصحف المغاربية والمشرقية أثرى اللغة العربية بالمصطلحات والتعابير التي كان يترجمها من اللغة الفرنسية، وساهم في تحرير اللغة العربية الصحفية من الثرثرة والترهل والإنشاء دون أن يفرط في اللغة التراثية التي صقلها لتعبر بدقة عن أفكاره وتستوعب متغيرات العصر. ولعل مناكفته منعته من سماع قصة الروائي الموريتاني موسى ولد أبنو مع اللغة العربية. فبعد أن نشر هذا الأخير روايته ”الحب المستحيل” ذات البعد الفلسفي باللغة الفرنسية، وثمّنها النقاد خير تثمين، لامه ثُّلّة من أصدقائه المعربين على حرمانهم من قراءة إنتاجه، فوعدهم بترجمة روايته إلى اللغة العربية، واختار مترجما بارعا كان يراجع معه ما يترجمه بين الحين والآخر، فانغمس في أجواء اللغة العربية. ويذكر أنه أصيب، ذات ليلة، بأرق فذهب إلى مكتبته للبحث عما يبعد عنه السٌهاد فوجد كتاب ”البخلاء” للجاحظ وشرع في قراءته، وأصيب بدهشة الاكتشاف. لقد كان الجاحظ يكتب باللهجة الحسانية! وهي لهجة بدوية كانت تتحدث بها قبائل بني حسان التي سيطرت على أغلب صحاري موريتانيا وجنوب المغرب بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر.  فلو أخذنا ما قاله صديقي مأخذ جد لاستنتجنا، بسرعة، أن الجاحظ أعاث فسادا في اللغة العربية! 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: