+ -

 أتّفق تماما مع كلام الدكتور ليامين بن تومي بخصوص نرجسية النص الروائي الجزائري، ورفضهم كتّابنا للنقد. وقد سبق لي وأن لامست هذا التوجه عند كتّاب جيلي، منذ أن بدأنا ننشر مع نهاية التسعينيات. وكنت حينها أدق ناقوس الخطر، حتى قبل أن ينشر تودوروف كتابه الشهير “الأدب في خطر”، وأكتب أن أدبنا نرجسي جدا، منفصل عن المجتمع، يهتم بهمومه بشكل مطلق على حساب هموم المجتمع. ولما استعدت لكتابة روايتي الأولى وضعت نصب عيني هذه النقيصة، قلت إن أدب السبعينيات وما تلاه كان أدب مجتمع على حساب الفرد، إذن سأضع نفسي بين الفرد والمجتمع، فأدخلت معاناة شاعر صحفي مهدد بالقتل، ومأساة مجتمع يهدده التطرف والنزعة الديكتاتورية في الوقت نفسه. حاولت تصحيح الأمر بإدراج الحوادث التاريخية، ومسار المجتمع العام، واستنجدت بتقنية فرانز كافكا الذي كتب “المحاكمة”، سنة 1913، كرواية ذاتية عن مأساة “جوزيف ك«، ثم كتب رواية “القصر” ونشرت سنة 1925، بعد مرور عام عن رحيله، لكي يفسر “ما أدى إلى المحاكمة”. ففي “القصر” يتم استدعاء “ك” للعمل كماسح للأراضي في القرية، فيعجز عن الاندماج في الحياة الجماعية التي ينظمها القصر الواقع على الهضبة.أما في “المحاكمة” فقد عبّر كافكا عن صعوبة الوضعية البشرية المحددة زمنيا، وفي “القصر” طرح العوائق التي تحول دون قدرتنا على إيجاد مكانة في الحياة. وقد لعب كافكا هنا على ثنائية “الزمان” و«المكان” باعتبارهما عنصرين أساسيين في حياتنا. ففي “القصر” نعثر على مجموعة من الموظفين البيروقراطيين الذين يصدرون الأوامر، ويتحكمون في المصائر البشرية، دون أي شعور بالمسؤولية، ويسيطرون من أعلى الهضبة، ومن مكاتب القصر في حياة أهل القرية التي جاء إليها “ك” للعمل كماسح للأراضي.ويبقى “ك” بمثابة “الغريب” بين موظفي القصر وأهل القرية. وعلية يمكن اعتبار أن رواية “القصر” عبارة عن عمل يتوقف عند الرموز الاجتماعية، ودونها يستحيل فهم مأساة “ك” في رواية “المحاكمة”.هكذا اختفى المجتمع في رواياتنا، وتم تعويض ذلك بفئة المثقفين، كما اختفى الفن، وحلت محله الفلسفة. لم نعد نعثر في رواياتنا على ذلك المعادل الموضوعي الذي يعني الاشتغال على جعل الواقع صدا لنفسية البطل. واختفت تلك القدرة على إبداع الرمزية، وتم ترك المجال للفلسفة، فأصبحت الرواية الجديدة مجرد رواية فلسفية، وظل الأمر هكذا إلى أن ظهرت في المدة الأخيرة تجارب جديدة تتماهى مع الفردي والجمعي في الوقت نفسه، وأركز هنا على الروايات التي ظهرت منذ سنتين والتي تصالحت مع ثيمة المجتمع، وأحدثت النقلة من الذاتي إلى الجماعي. وربما هذا ما لم يتناوله صديقي الدكتور بن تومي فأعمال سعيد خطيبي وعبد الرزاق بوكبة وعلاوة حاجي وفارس كبيش وهاجر قويدري، مثلا، خالية من النرجسية النصية.والنقاد بدورهم انخرطوا في هذه اللعبة. أصبحوا لا يلتفتون إلا للرواية الفلسفية، التي لا أنكر وجودها بالمناسبة، ولا أرفضها، بل أدافع عن حقها في الوجود، من منطلق أن الرواية/ روايات، والتجربة الروائية يجب أن تقوم على التعددية، والتنوع والاختلاف. ونقدي هنا موجه فقط لظاهرة غض الطرف عن المجتمع ونكرانه، ولمسايرة الناقد للتوجه النرجسي للرواية. أريد أن يكون الناقد كائنا يرفض التخندق.أعتقد أن النقد انحرف بدوره جهة الرواية الفلسفية، وترك الرواية الاجتماعية جانبا.لم يقرأ التجارب التي تستنطق الضمير الجمعي، والمجتمع في حركيته، وفضّل رواية البطل المثقف الذي يطرح الأسئلة الوجودية، فانساق وراء ديكتاتورية الكاتب الذي فرض الكائن المثقف كبطل واحد.كتب الدكتور اسماعيل مهنانة منذ أسبوع أن الرواية الجزائرية عجزت عن “نحت أبطال وشخصيات استثنائية”، وهو محق في ما ذهب إليه. وما أدى إلى ذلك يكمن في ملاحظة الدكتور بن تومي، وهو أن النص الروائي الجزائري “متخم بالنرجسية”، كتبه روائي نرجسي للغاية، والنرجسية تجعلك لا ترى سوى ذاتك، ولا تكتب إلا الروايات التي أبطالها مثقفون على صورتك. وأن تكون نرجسيا، يعني أنك تكتب وأنت تحت تأثير الذاتية المبالغ فيه.منذ ما يقارب العشر سنوات، قال لي أحد الأصدقاء إن الرواية الجديدة في الجزائر سائرة نحو نوع من “الفرويدية” المبالغ فيها، ولو استمرت على هذا الوضع فإنها لن تلتفت للمجتمع. وأضاف “بين فرويد وادغار موران، يجب أن ننظر قليلا للثاني”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: