+ -

 ردّ الإعلامي المصري حمدي قنديل على سؤال حول رؤيته للمشهد السياسي الجزائري بقوله: ”إنه معقّد ويستعصي فهمه، حتى على الجزائريين أنفسهم”. والواقع أن هذا القول حقيقي في عمقه.. لا يحتاج المتابع للوضع الجزائري إلى نظريات عديدة، ولا إلى تحليل معمق لإدراك ذلك، نعيش في بلد يحكمه شخص واحد مريض، يُسير دولة بالمراسيم الرئاسية، خلق مجموعة من التوازنات في كل الاتجاهات، توازنات داخلية وخارجية، الكل مرتاح للوضع، الداخل راض والخارج راض، الشعب يحس بأمن مؤقت، والمال اشترى رضاه، والعسكري راض، والسياسي راض، لأنه أخذ حصته من الكعكة، والنخبوي راض لأنه لا حول ولا قوة له.. هكذا يبدو الوضع في الظاهر، وهو بقدر بساطته ووضوحه معقد، لأنه يعبر عن حالة فراغ وركود وموت.. إذا نظرنا على مستوى أوسع وأفق أبعد من منطلق المستقبل، وقسنا وضعنا مقارنة مع شعوب أخرى، فهو معقّد ويمس عقيدة وجودنا كأمة وككيان، كإضافة إنسانية وكوجود إنساني، وقد تطرق لهذه القضية عبر حقب التاريخ كلها عدد من علماء الاجتماع وعلماء النفس، إذ تصبح الأمور معقدة غير واضحة ومبهمة وبلا مخرج، عندما لا تكون هناك أهداف محددة تجمع الأمة، وتسير بها نحو آفاق أوسع.. أهداف تصنع أهدافا، وتراكم الأهداف وتحقيقها يصنع ما نسميه النهضة، والنهضة تقود إلى مفهوم أوسع هو صناعة الحضارة، وقد اختلفت الأمم على مر التاريخ في صنع الأهداف، إلى أن وصلت إلى استراتيجية صنع العدو، التي تقودها أمريكا من أجل بقائها ككيان متماسك، وقبلها العقيدة الصهيونية من أجل جمع اليهود حول هدف إقامة الدولة.للأسف، نعترف لك أيها الإعلامي بأن الوضع معقد في الجزائر، لأننا بلا أهداف، أفرغنا الشعب من كل شيء، حتى من رغبة الصراخ ”كفى” نغتالها قبل أن تلد، وأفرغنا المجتمع من مبادئه وقيمه، المال اشترى كل شيء حتى الصمت، وأفرغنا الدولة من مؤسساتها، المال الفاسد حطم كل مظهر لها.. لا يوجد في الجزائر أفق واضح، لا خطط اقتصادية واضحة، فنحن مع اقتصاد السوق ونعمل على تقييد السوق بالطرق القانونية، بينما نسمح بإقامة سوق موازية بطرق غير قانونية.. نحن مع الديمقراطية نسمح بوجود أحزاب تصفق للسلطة، ونرفض اعتماد أحزاب أخرى قد تشكل معارضة حقيقية للسلطة.. نحن مع حرية التعبير ونقيد الإعلام بمختلف المساومات من الاعتماد والإشهار إلى المطابع.. نحن مع التجارة الحرة لكننا نسيّر الإشهار بشركة عمومية.. نحن مع وجود استثمارات أجنبية ونقيدها ببيروقراطية خانقة.. إذن، فالوضع في الواقع يشبه السير في الضباب بسرعة قصوى. لقد صنع الشباب الجزائري في 1954 الفارق وخلدوا في التاريخ، لأنهم امتلكوا الهدف وهو الاستقلال، وناضلوا بقوة حتى أصبحت الجزائر قبلة للثوار، لأجل هذا الهدف. وبعد الاستقلال، كان الهدف أن نحافظ على وجود الدولة، ونبنيها لبنة لبنة، عندا في فرنسا التي تركت الجزائر بلا شيء بعد مغادرة المعمّرين. كان على الشعب الأمّي والجاهل في غالبيته أن يتحكم في مصيره  بنفسه، ولم يكن جاهزا لهذا، أخطأ في أشياء وأصاب في أخرى، لكنه حقق الهدف لم تنهر الجزائر بعد الاستقلال.. اليوم بعد 60 سنة وبعد تحقيق هدف الاستقلال، نعيش كالبهائم بلا هدف، بلا هاجس، نأكل ونشرب وننام هذه أقصى مطالبنا كشعب.. والأسوأ إذا نظرنا إلى ما آلت إليه الأمور، نشك أن هناك من كانت لهم أهداف أخرى عملوا بجد على تحقيقها، وهو تحطيم الدولة الجزائرية الدولة كشعب ومؤسسات ولم يبق لهم إلا الجزء الأخير تفكيكها كرقعة جغرافية متماسكة.. إذن فوضعنا فعلا معقد بقدر تفاهته..

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: