ترافن... ذلك الروائي الذي لم أعد أجهله

+ -

 دخلت عالم الأدب بفضل السينما. فأول كتاب اشتريته كان بعنوان “العصافير” لألفريد هتشكوك. حدث ذلك بعد أن شاهدت الفيلم الذي مثّل فيه الممثل رود تيلور، والذي تدور أحداثه حول أسراب من العصافير تغزو مدينة ساحلية تسمى “بوديغا باي”، تنشر الذعر والخراب، فتظهر عجز الإنسان وضعفه.وتوالت الاكتشافات التي حملتني إلى الأدب الروسي مع فيلم “الحرب والسلم” و«الإخوة كارامازوف” الذي لم يكن في مستوى عظمة رواية دوستويفسكي.. وغيرها من الأفلام المقتبسة من أعمال روائية عظيمة، جعلتها السينما لحظة خالدة.مازلت أذكر ذلك التأثير الذي مارسه عليّ فيلم “كنز لاسييرا مادري”، لجون هيستون، والمقتبس عن رواية لكاتب يدعى بيرنارد ترافن. الفيلم مثّل فيه همفري بوغارت. ويصوّر ضعف الإنسان وعدم قدرته على مقاومة الجشع الذي ينتج عن حمى البحث عن الذهب. تلك الحمى التي يصفها السويسري بلاز سونداررس في رائعته “أور”. الذهب كمصدر للشر على حد تعبيره.هناك في رواية ترافن قصة ثلاثة مغامرين أمريكيين علقوا في المكسيك سنة 1920، يقررون التنقيب عن الذهب في غابات “سييرا مادري” بالمكسيك، في ظل أجواء أمنية خطيرة تتسم بانتشار عصابات لا تعترف بالسلطة المركزية، تنشر الرعب في الأرياف. بعد اكتشاف الذهب واستخراج كمية منه، يصاب أحدهم بـ«داء” الإغواء فيستحوذ على نصيب زميليه، لكن عصابات قطّاع الطرق تريده مقتولا، فيضيع الذهب ويعود إلى الأرض ويذهب في مهب الريح.استطاع جون هيستون، المعروف بتحويل عدة روائع أدبية إلى أفلام ناجحة، منها رائعة داشييل هاميت “الصقر المالطي”، أن يقدّم فيلما بالأبيض والأسود حول ضعف الإنسان وتبعيته للمادة وصناعته لإخفاقه بنفسه. قوة الفيلم جعلتني أبحث عن الرواية. وبالفعل عثرت عليها بسهولة (نحن الآن في بداية الثمانينيات)، لكنني لم أعثـر على أي شيء عن بيرنارد ترافن إلا خلال الأيام الأخيرة، وأنا أقرأ كتاب “فن الحكي” للروائي الفرنسي دومينيك فيرنانديز.اكتشفت أشياء مثيرة عن ترافن. منها أن اينشتاين كان يعتبره كاتبه المفضّل. وكان يردّ على من يريد معرفة أي رواية يرغب في قراءتها، بقوله: “أي رواية، المهم أن تكون لترافن”. ترجمت أعمال ترافن إلى ثلاثين لغة. وهو روائي من أصل بروسي واسمه الحقيقي “أوتو فاينيكي”. ولد سنة 1882 وتوفي سنة 1969. ويخبرنا فيرنانديز أنه كان روائيا كتوما. رفض الحوارات الصحفية، ولم يكن يأبه بصيته الأدبي. انضم في ألمانيا للنقابات اليسارية الثورية، وفرّ إلى سويسرا، ثم إلى كندا والولايات المتحدة التي طردته إلى المكسيك، حيث كتب أهم أعماله الروائية، وساند ثورات الفلاحين. ويضعه فيرنانديز بالقرب من جاك لندن وكويستلر وكافكا. يلتقي مع هذا الأخير عند مقته الشديد للسلطة والبيروقراطية، ومع جاك لندن عند حب المغامرة. نشر أول رواية له سنة 1926 وحققت نجاحا كبيرا، فمكنته من التخلي عن المهن القاسية التي امتهنها، منها مسح الأحذية وبيع الجرائد.وكتب ترافن، حسب فيرنانديز، رواية المغامرة مثله مثل هرمان ملفيل وكيبلينغ، تلك الرواية التي تعتمد على ثنائية الخير والشر. لكن ترافن تجاوز هذه الفكرة، وقدّم عوالم منغلقة تسودها العتمة، ويختفي فيها الأمل الذي نعثر عليه في أعمال رواد رواية المغامرة أمثال ستيفنسون والكسندر ديماس وجول فيرن. وبالفعل ندرك في رواية “كنز سييرا مادري” أن الذهب لم يعد بإمكانه تغذية الأحلام (أليس الذهب هو الذي حمل السندباد البحري إلى أقاصي العالم؟) والتشجيع على البطولة، فقد تحوّل إلى مصدر للجريمة والخداع. ويخلص فيرنانديز: “كف الذهب عن تحرير الإنسان، وأوصله إلى الهلاك”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: