عندما يفقد القضاء البوصلة في ليبيا

+ -

ما بال القضاء في ليبيا يفقد بوصلته منذ أول أيام الاحتجاجات في فبراير 2011، عندما أقحم مصطفى عبد الجليل كقاض ووزير للعدل نفسه في لعبة معقدة وملغومة، مع أكثر رجال السياسة احترافا وقوة في العالم، ليصبح ليس مفعولا به فقط، ولكن لا محل له من الإعراب أصلا، ولا موقع له على رقعة الشطرنج، رغم تلك الرحلات المكوكية بين عواصم ما سمي حينها بأصدقاء ليبيا، فهل مكنه كرسي المجلس الانتقالي من الحفاظ على مثالياته كقاض، أم قذف به في أتون لعبة قذرة لا قانون لها ولا قواعد، غير المصلحة صديقها الوحيد، ولكن قاضي البيضاء الصغير أو الكبير، لم يكن يدري بحكم تكوينه العلمي البسيط، وتركيبته المنتمية إلى مجتمع قائم على النظام القبلي أن لعبة شطرنج ملوكها قوى دولية وجنودها وبيادقها حلف الناتو، وأحصنتها ليست عربية أو بربرية أصيلة، لا وجود لما سمي بالثوار فيها سوى على مسرح التمثيل المرافق لتلك الحرب، وأن مثاليات القضاء التي دفعته للقيام بعملية انتحارية فجر عبرها الشعب الليبي، كان أولى به أن يمارسها تحت خيمة شيخ القبيلة ذات الأهمية عند اللزوم، من أن ينتقل بها إلى باريس ولندن وغيرها، والتي لم يكن يعود منها بأكثر من صورة جماعية، ومغالطة كبرى تقذف بمصلحة ليبيا وشعبها لتضعها بين أيدي داحس والغبراء، التي لا تعرف غير حرب الموانئ والمطارات وروائح نفط منبعثة وسياسة لامتصاص الدماء، ولك أيها القارئ أن تتصور مستقبل ليبيا، إذا اجتمع فيها الجهل المقدس، مع آبار النفط والسلاح، إنها معادلة لم تكن تخطر بذهن القاضي البسيط، عندما كانت تفرش له الأبسطة الحمراء وتفتح له القصور الفارهة.وبعد سقوط النظام، عزل قضاء الميليشيات القاضي البسيط، وطرد الجنود القائد بفعل قانون العزل السياسي، بعد أن مارست الجماعات المسلحة أو الميليشيات ضغوطا شديدة على البرلمان الليبي السابق، من أجل تمرير قانون يستبعد جميع المسؤولين الذين خدموا النظام الليبي خلال الثلاثين عاما الماضية من العمل في القطاع العام لمدة عشرة أعوام، ومن أجل ذلك قام أعضاء الميليشيات بمحاصرة البرلمان واحتلال عدة وزارات، وكأني به التكفير المهني والسياسي للشعب كله، على اعتبار أن إطارات الدولة وموظفيها الذين يعدون بالملايين من أبناء الشعب الليبي، مدانون بخدمتهم للشعب، إنها فكرة خطيرة تجد خلفيتها في نظرية التكفير ومعالم الطريق، وإن تم التعبير فيها عن جاهلية المجتمع، تمويها بالفلول أو الثورة المضادة، حيث لا الثورة كانت ثورة بالمفهوم الصحيح للثورة، حتى يكون لها ثورة مضادة ولا للمهنية والوظيفة، دين يجري التكفير من خلاله، ومن ثم توقف محرك المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي الذي كان يسير بالإملاءات، لأن اللعبة حققت أهدافها بعد إسقاط النظام وضمان النفط، الأمر الذي غاب عن الخريطة الإدراكية للقاضي البسيط. وفي المرحلة الثالثة توقفت بوصلة القضاء تماما عن العمل، عندما أصدرت المحكمة الدستورية العليا قرارا بحل البرلمان الجديد المنتخب والملتئم بمدينة طبرق، تلك المؤسسة الوحيدة التي كانت توحي بإمكانية وجود ملامح دولة، وهي التي كانت تمثل مبعث الأمل الوحيد في محاولة استكمال شكل دولة، يضمن لليبيا أدنى حد من الأمن والاستقرار، ليتأكد أن سؤال المآل غائب تماما عن المصفوفة القضائية البسيطة، التي أصدرت الحكم لأسباب خاصة بالمكان، إنه نظام القبيلة بعيدا عن مفهوم الدولة ومنطقها، فأي قضاء هذا الذي يجعل ليبيا مبتدأ بلا خبر، وخبرا بلا مبتدأ، ولا معالم دالة، ولا خريطة طريق، ليتأكد مرة أخرى أن الديمقراطية لدى غالبية من جماعات الإسلام السياسي مجرد آلية للوصول إلى الحكم والسلطة، ألم يرفض حسن البنا التعددية وحرم تأسيس الأحزاب السياسية، ليتم بعد عقود قبولها من طرف جماعة الإخوان، كضرورة حتمها الواقع والتحولات، وليس كثقافة وفلسفة حياة، ولذلك وبمجرد أن خسر الإخوان في ليبيا الانتخابات، حاصروا المطارات وسعوا بطريق حل برلمان منتخب انتخابا حرا ونزيها، وجروا وراءهم فتاوى الغباء السياسي، وأصدرت المحكمة الدستورية قرارا أثرا من منظومة القاضي البسيط.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: