+ -

 وأنا أتابع بعضا من زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للجزائر، وخاصة زيارته لورشة ترميم جامع كتشاوة الذي تكفلت الدولة التركية بتكاليفه، تواردت في بالي خواطر كثيرة. جامع كتشاوة للعلم بني سنة 1613، أي في القرن الأول من الحكم التركي العثماني الذي بدأ في 1518، وقام بتوسيعه الداي حسين سنة 1794، وتم تحويل الجامع إلى كاتدرائية خلال الحقبة الاستعمارية المظلمة.ولكن قلت في نفسي تركيا الدولة تتولى ترميم جامع، لأنه بني في مرحلة الوجود التركي العثماني، والرئيس أردوغان يتوقف عند ترميم الحجر، حتى وإن كان جامعا فائق الرونق والجمال، ولم يتوقف لحد الآن عند ترميم بعض من أخطاء وخطايا التاريخ تجاه شعب شقيق. كما قلت: هل فكر الرئيس أردوغان في “ترميم!” شيء مما تسبب فيه الحكام الأتراك من إيصال المجتمع الجزائري إلى “القابلية للاستعمار” أو على الأقل ما تسبب فيه استسلام الداي حسين وباي التيطري ووهران، وتركهم الجزائر فريسة للاحتلال الغاشم.تذكرت جوانب من تاريخ الوجود التركي في الجزائر، وتذكرت ونحن نعيش الذكرى الستين لثورة أول نوفمبر، أن الحكام الأتراك، باسم الدولة العثمانية أو تحت أي اسم آخر، استسلموا وسلموا الجزائر للاستعمار الفرنسي، بل ورفض الرجل المريض، آنذاك، الدخول في أي خصومة مع الدولة الفرنسية، أو تقديم عون عسكري للمقاومة الجزائرية.ولكن ينبغي القول إن تاريخ الحكام الأتراك مختلف، فذكرى صالح باي في بايلك الشرق ليست ذكرى الداي الحاج حسين (ميزومورتو) ولا علي الغسال، وذكرى الداي حسين ليست ذكرى الداي علي خوجة ولا الباي أحمد.وأذكر أنني كتبت مقالا نقدا لكتاب الراحل مولود قاسم “الشخصية الدولية للجزائر” بعنوان:.. بعيدا عن القصور والدايات. ومما قلت فيه، وأنا أكتب من الذاكرة، التالي: في مواجهة الغزو الفرنسي للجزائر هناك ثلاث شخصيات، الداي حسين والباي أحمد والأمير عبد القادر. الداي حسين وقع وثيقة الاستسلام وأُركِب سفينة نقلته إلى الإسكندرية هو وأهله وثروته وجواريه، أما الباي أحمد فقد عمل على تنظيم المقاومة التي دامت أكثر من سبع سنوات، أما الأمير عبد القادر فقد بُويِع ونظم المقاومة التي دامت أكثر من 17 سنة. الداي حسين لم يقاوم ربما لأنه، إضافة لعوامل أخرى كثيرة، فَقَدَ حكما ولم يَفقِد وطنا، أما الباي أحمد فهو ليس تركيا بالكامل وأمه، الحاجة الشريفة، من عائلة بن ڤانة من بسكرة، وبحكم أن أخواله جزائريون فقد كان له تواصل مع المجتمع ومكوناته على الأقل في شرق البلاد، وهو في حالته فقد الحكم والوطن، أما الأمير عبد القادر فلم تكن له سلطة ولا حكم وفهم أنه يفقد وطنا فحركته الغيرة الوطنية، وقاوم ما استطاع بل بدأ مجهودا لبناء أركان دولة على أنقاض الدولة المنهارة المستسلمة.في كل الأحوال، عندما وقع الداي حسين وثيقة الاستسلام “تنازل” عن الجزائر للغزاة الفرنسيين في 5 جويلية 1830، عندها اتضحت صورة كانت غامضة، رابطة الدين، التي قامت ذات يوم من عام 1510، ليست كافية في استدامة الدولة والسلطة. كما ثبت أن رابطة الدين لم تكن كافية لكي تجعل الحكام الأتراك لا يستسلمون ولا يفرون، ولم تكن كافية لكي تجعلهم يندمجون في الجزائريين ويخوضون مقاومة. الوطنية والشعور بالمسؤولية تجاه الوطن وإرادة حمايته ورد العدوان عنه كانت أقوى، كما هو واضح من تلك الرابطة، ولهذا تخلى الحكام عن المسؤولية التي يفرضها عليهم الدين وفضلوا العودة إلى وطنهم تركيا!ومن ثم يمكن الجزم بأن الوطنية الجزائرية ولدت بعد استسلام الحاكم التركي وبعد هروب باقي البايات وباقي النخب التي كانت تدير شؤون هذا البلد القارة، كما وصفه عثمان خوجة، وتنعم بخيراته بل وتحتكر الجزء الأكبر منها.السيد الرئيس أردوغان، هل فكرت في ترميم شيء من هذا ولو معنويا، أم أن الدولة التركية لا تشعر بالمسؤولية حتى اليوم عن ذلك؟ نعم في كل الأحوال الجزائريون تحملوا مسؤولياتهم من مقاومة الأمير عبد القادر وأحمد باي إلى ثورة أول نوفمبر، وحرروا وطنهم بتضحيات جسام. فهل يمكن أن تتوقف الدولة التركية أمام هذا التاريخ وتتمعنه لترى إن كانت لها مسؤولية عن 132 سنة من الاستعمار أم لا، وهل ينبغي أن تفكر في ترميم شيء من هذا التاريخ أم لا؟المسألة السيد الرئيس، لكي تطمئن، ليس فيها أي تعمد لوضع الدولة العثمانية والحكام الأتراك في الجزائر في وضع الاستعمار الاستيطاني الغاشم، وليست مطالبة تركيا مثل مطالبة فرنسا بالاعتراف بجرائمها، ولكن ذلك تاريخ ينبغي تذكره والوقوف عنده، وأخطاؤه وخطاياه مسؤولية الحكام قبل أفراد الرعية في كل الأحوال.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: