+ -

 غنّت “الشيخة الريميتي” في بداية الألفية الثالثة “أنا وغزالي في الجبل نلقّطوا في النوّار”، وقد حققت الأغنية نجاحا باهرا. لم تكن الريميتي وقتها ولا من سمعها يظن أن الأغنية استشراف لمستقبل الشعب الجزائري، الذي بعد 15 سنة من البحبوحة المالية، يبدو أنه يتجه إلى أن “يلقّط الحشيش في الجبل” ونقصد الحشيش “العشب”. نعم. إن ارتفاع أسعار الخضر هذه الأيام، لا يمكن مواجهته إلا بالعودة إلى الجبل وجمع “الڤرنينة” و”السلق البري” و”البلوط” وغيرها من النباتات، التي استعملتها الجدات أيام الفقر والعوز، وحتى هذه أخاف أن لا تتوفر، بعد أن قضى الإرهاب على كل أخضر ويابس، وأكمل الإسمنت على كل أرض صالحة في سنوات النهب الفوضوي والطفيلي المجنون. يتساءل المتجول في الأسواق الجزائرية، كيف للمواطن البسيط الذي لا يتجاوز دخله 20 ألف دينار، أن يواجه هذا الغلاء في أساسيات المطبخ الجزائري، الثوم، البصل، البطاطا، الطماطم، ولا نتكلم عن البازلاء والفاصوليا الخضراء، فأصبحت رفاهية “لوكس” للأثرياء فقط، واقترح أن يكتبوا فوقها “كريستيان ديور” أو أي ماركة عطور عالمية.     نقف في الوقت نفسه أمام ظاهرة غريبة، يمكن أن نصف من خلالها الشعب الجزائري ضمن أكثر الشعوب رفاهية، بعد أن صُنّف من أسعد الشعوب، ففي سوق الخضر والفواكه “يا خوتي”،  يتساوى ثمن الموز وثمن البصل، ثمن التفاح وثمن الثوم، ثمن الطماطم وثمن البرتقال، لذلك  أتوجه إلى السيدات الجزائريات بنداء عاجل، بأن يتوقّفن عن مشاهدة المسلسلات المكسيكية والفنزويلية والبرازيلية ويتوجّهن إلى قنوات الطبخ اللاتيني الذي تعتبر الفاكهة فيه أساسية، ويومها قد نسمع عن “كباب موز” و”دولمة تفاح”، و”الكُسكسي بالكيوي” وهكذا.. نعم أنت في “بلاد لعجب”.. الجزائر التي كانت تموّل أوروبا كلها في الخمسينيات والأربعينيات من القرن الماضي، تقف عاجزة عن إطعام “كمشة عباد”. إن ما وصلنا إليه اليوم هو نتيجة سياسة تشجيع الاستيراد غير النافع، والثراء غير المنتج، المترتب عن الفساد، وفتح خزائن الدولة للنهب، فشجعت الثراء السريع وقضت على قيمة العمل الحقيقي المنتج، خاصة ثقافة الفلاحة والريف، بما أن الوكالة الوطنية لتدعيم تشغيل الشباب “لونساج”، منحت الفرصة للاستثمار أو “الاستحمار والاستدمار” في سيارات وحافلات الموت في المدن، بدل من التركيز على ترقية الشباب في القرى والمداشر وتشجيعه على الفلاحة والبقاء في محيطه الريفي الطبيعي، وأيضا نشر ثقافة احترام الريف وسكانه، وما يقدّمه الريف من دعم حقيقي لبناء الاقتصاد الوطني. تبدأ هذه الثقافة من المدرسة وفي الإعلام، بأن يتفتح على عمق المجتمع الجزائري، وأن يثمّن خصوصيات الريف واحترامها وتقديمها كنموذج لمجتمع راق، مع رد الاعتبار لنشاط الفلاح، وإعادة النظر في السلم القيمي في المجتمع، عن طريق تقديم الفلاح في أحسن الصور، في الفن والسينما والغناء والمسرح وحتى في الرواية. تحضرني في هذا المقام واقعة شهدتها في إحدى القنوات الإذاعية، شخص يصف على المباشر أهل الريف بـ”الكافية” أي المتخلفين، وتضحك المذيعة، بل وتعلق بما هو أفظع. ليس هذا فقط، فغياب استراتيجية عمرانية وتخطيط حقيقي للمدن، جعلنا نعيش في قرى كبيرة تسمى مجازا مدنا، لقد أهملنا الريف، ولم نستطع منذ العشرية السوداء أن نعيد الحياة إليه، بأن نستحدث تجمعات سكنية توفر للمداشر والقرى القريبة منها متطلبات ومستلزمات الحياة الحديثة، أو ترقية تلك الموجودة، مع احترام بيئة وخصوصية الريف الذي يعتبر الممول الرئيسي والأساسي للسوق الجزائرية وعامل توازن اقتصادي واجتماعي.. لا مستقبل لشعب لا يجد ما يأكل مهما كان ثريا، يكفي أن تتوقف البواخر عن دخول موانئنا وسنأكل بعضنا. إذن علينا إعادة الاعتبار للفلاح البسيط وللريف والمداشر والقرى في الجبال والحضنة والسهوب والهضاب، وكل إنتاج يغنينا عن السؤال، سيكون أساس الاستراتيجية المستقبلية للدولة القوية، حتى يمكننا أن نصعد إلى الجبل ليس لجمع العشب، بل سنجمع الورد والزهر كما غنت الريميتي.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: