“صْغَيَّرْ ويْغَيَّرْ” و “كبير وجَايَح”

+ -

أتذكر من أمثالنا الشعبية المستمدة من تراثنا، والتي أحب أن أعود إليها كلما كان الوضع أو الموضوع لا ينفع معه إلا أمثالنا الضاربة في العمق، والمعبرة فعلا عن واقعنا ووضعنا، مثلان أراهما يعبران عن الحالة التي نحن فيها وحالة جيراننا بتونس. يقول المثل الأول “صْغَيَّرْ ويْغَيَّرْ” والثاني “كبير وجَايَح”.. تذكرت المثل الأول وأنا أتتبع أخبار تونس الشقيقة والانتقال الديمقراطي ومستوى النقاش الذي يدور في القنوات التونسية حول الحكم في تونس، سواء فاز وقتها السبسي أو المرزوقي. أحسست فعلا بألم رغم أن الجزائر عاشت نفس النقاش الساخن في بداية ديمقراطيتها الموءودة في التسعينات، حين كانت تجتمع الأضداد في بلاطو الإعلامي “مراد شبين وتتصارع الأفكار بقوة. أحسست بالغيرة وتونس “الصغيرة” وأضعها بين قوسين، لأن القصد هو صغر الحجم والموارد وعدد السكان، تونس الصغيرة بما عندها، تعطي لنا دروسا في التعامل مع المستجدات. تونس تقفز على مشاكلها وقلة مواردها وضعفها الاقتصادي، تقفز على كل الحسابات الجيوسياسية وكل التوقعات وتنتصر للياسمين، للتغيير، بكل سلاسة وجمال. قد يقول البعض كما يروج إن المخابرات والجيش وإن الجزائر تدخلت لإحداث التوافق بين التونسيين. لكن تونس توافقت من دوننا، لأننا في وضعنا الحالي أصغر من أن نملي على هذا الشعب كيف يتصرف. شعب لديه مجتمع مدني قوي وفعّال، معارضة واعية، وبقايا نظام يفضل تقاسم الحكم للمصلحة العامة على الاستئثار به من أجل المصلحة الضيقة، وتيار إسلامي مقتنع باللعبة الديمقراطية، وتيار علماني يتقبل الطرف الآخر، ومرآة قوية متواجدة في كل التيارات، وفوق هذا واعية ومتعلمة، وأستعير هنا عبارة الأستاذ سعد بوعقبة “ليست حفافة في برلمان”. هؤلاء من يتصدرون النقاش في تونس عبر فضائياتها وصحافتها ومواقعها.. أتذكر بالمقابل المثل الثاني “كبير وجايح”، كلما اطلعت على النقاش الدائر بين الجزائريين بين تيار يدافع عن الله وكأن الله لا ينتظر إلا دفاع شعب، لم يدافع عن حقه في حياة كريمة، لم يدافع عن حقه في التغيير في أن يحكمه مسلم قادر وقوي، وقد قال النبي “المسلم القوي خير وأحب إلى الله من المسلم الضعيف”.. مجتمع لم يدافع عن حقه في التقدم والتطور.. يا “جماعة”، إننا نعيش في القرون الوسطى، وربما هو السبب الذي جعل فتاوى القتل مباحة، لم نتقدم قيد أنملة، حتى إننا تأخرنا عما تركتنا عليه فرنسا.. وتطل عليك جهة أخرى تدافع عن حرية الرأي، بينما تنتهكك بلادهم بالطول والعرض وتنهب ثرواتهم بكل حرية في التصرف.. بكل حرية يتم تجاوز الدستور وفرض منطق الجهة والعشيرة والجهوية ومبدأ اِسرق تسلم وغيرها، ومع ذلك صامت.. والأخطر هناك من يدافع عن الحق في قتل المرتد، ولا أحد يدافع عن الحق في الحياة لكل الشعب.. أسبوع كامل من نقاشات عجت بها مواقع التواصل الاجتماعي والتعليقات العبثية تارة والفكرية تارة أخرى والفقهية.. أسبوع كامل يناقش فيه الجزائريون “الريح”، “لعبة إلهاء مقيتة”.. في تونس يناقشون واقعهم ونحن نناقش النيات في الكتب الروائية، في تونس يناقشون المستقبل ونحن نناقش الغيب، مثل مرض الرئيس الذي لا نناقشه وننتظر ما في الغيب.. في تونس يناقشون البرامج وما يقدمون للشعب التونسي، في الجزائر نناقش من مع الله ومن ضد الله، رغم أن الجزائريين أجابوا عنه منذ 1830 ولم يبدلوا تبديلا.. في تونس يناقشون الحياة وكيف يعيشون أفضل، ككل الشعوب التي نجحت في الخروج من نظام يتحكم في الدين والمدرسة والقضاء وحتى في غرف نومنا، يتحكم في القهوة والزيت وحتى في أحلامنا ومزاجاتنا.. في تونس يناقشون الحياة ونحن نناقش الموت. إن من مقاصد دينكم الحفاظ على النفس والمال والعرض، في تونس يطبقون الدين، ونحن نتحدث باسم الدين، في تونس يطبقون الديمقراطية ويمارسونها، نحن سنبقى نتغزل بها ونغمز لها ونعاشرها أحيانا في غير الأطر القانونية ولا الشرعية.. بينما نطبق كل أنواع الخراب، فلا أنفسنا مصونة ولا عرضنا مصون ولا مالنا وثرواتنا مصونة ولا مستقبلنا مصون.. هلا تركتم لله ما لله وانتبهت قليلا لخلق الله.. “كبار وجايحين”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: